يندرج كتاب «الكتابة النقدية عند محمد برادة، المرجعية والخطاب» الصادر مؤخراً عن إفريقيا الشرق (2020)، ضمن المشروع النقدي للناقد المغربي إدريس الخضراوي، فقد سبق لهذا الناقد أن أغنى خزانة النقد المغربي من خلال إصداره لمجموعةٍ من الكتب النقدية، نذكر منها: «الأدب موضوعًا للدراسات الثقافية» (2007)، و»سرديات الأمة، تخييل التاريخ وثقافة الذاكرة في الرواية المغربية المعاصرة» (2017)، وما يُلفت الانتباه في المادة الكتابية عند الخضراوي، هو جنوحها نحو التجريب والترحال الدائمين بين النظريات الأدبية، لنقل، إنه ناقد تأويلي، يُحاول دوماً عدم التموضع ضمن نظرية أدبية ما، أو أن يتموقع في إطار منهجي معين، من هنا، تبرز منظورات هذا الناقد وشغفه بكل جديد من النظريات، كما يكشف منجزه النقدي عن فهمٍ عميقٍ لتيارات النقد الغربي وتَمَثّله لمختلف مفهوماتها واتّجاهاتها.
إن إدريس الخضراوي، ها هنا يُحاول الانفتاح على كل المناهج والاستفادة منها في بلورة تصور نقدي لا يعترف بالتخوم الابستيمية التي تقيمها المناهج النقدية الجديدة، بل يعمل على استقرائها وإعادة صياغة مفهومات بخصوصها، وفي هذا الصدد، يأتي منجزه النقدي الأخير، لنفض الغبار عن أهم الأصوات النقدية الطليعية في العالم العربي، إنه محمد برادة الروائي والناقد الذي واكب مسار النقد المغربي منذ مرحلة التأسيس بداية الستينيات وصولاً إلى مرحلة التنظير والتأصيل منذ منتصف الثمانينات إلى وقتنا الراهن، وهي تجربة نقدية حاولت وضع سؤال النقد المغربي ضمن خانة أسئلة النقدية الجديرة بالاهتمام والمثرية للنقاش.
ينبسط الكتاب إلى ثلاثة أقسام كبرى ومقدمة وثبت المراجع والمصادر، وتتوزع هذه الأقسام الثلاثة، وتتفرع فصولها ومطالبها بين إسهامات برادة في حقول النقد والرواية والثقافة، بالإضافة إلى الحقل الثقافي الذي تبلورت فيه كتاباته النقدية، وقد حرص الناقد على تجلية هذه المقولات، وكذا الإجابة عن جملة من الأسئلة المقلقة والدافقة في هذه التجربة من خلال الانفتاح على حقل سوسيولوجيا الأدب منهجًا للدراسة، ولا شك أن ثمة عوامل كثيرة جعلت الخضرواي يتوجه بالنقد والمساءلة ومواكبة ما يكتبه برادة، يقول في هذا السياق: «لا شك أن ثمة عوامل كثيرة تُجيب عن هذا السؤال، بداية، يبدو محمد برادة مثل رولان بارت، ليس مجرد ناقد، وإنما شخصية أدبية، فقد قدمت آراؤه حول القضايا الثقافية لمعاصريه اتجاهًا ثقافيًا وجماليًا، فهو رجل المواهب المتعددة، الكاتب والناقد والمثقف ورجل المناظرات. فهو يعدّ من الوجوه الأساسية التي طبعت الحقل الثقافي المغربي والعربي على امتداد العقود الخمسة الأخيرة، وما زال يؤثر بقوة في المشهد الأدبي في اللحظة الحاضرة بعديد من الأعمال الأدبية والنقدية اللماحة التي تحظى بإعجاب القراء بحكم جديتها وجاذبيتها وجدّتها. (ص: 20)، من ها هنا، تنبع الأهمية القصوى التي يوليها الناقد لأعمال برادة، ويحاول الاقتراب من مظانها وأسئلتها الكبرى في علاقتها مع مختلف مناهج النقد الغربية، ومحاولاته تجاوز قصورات المثاقفة، في أفق بناء خطاب نقدي عربي مُنتج وفعّال، واللافت للانتباه أن إدريس الخضراوي جعل من مفاهيم: المثاقفة- الأدب- الالتزام- الأدب- النقد، وغيرها مفاهيم مركزية في بلورة وبناء التصورات النقدية عند برادة، خصوصًا على مستوى التنظير والتأصيل للممارسة النقدية المغربية.
يتضح من القسم الأول الذي حمل عنوان: «الحقل الثقافي وإشكالية النقد»، أن ينطوي على بحث مستفيض في مفهوم الحقل الثقافي، ومن المعلوم أنه مفهوم اجترحه السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو للتعبير عن الشروط المحيطة بكل إنتاج أدبي، فهي الشروط التي تتيح للقارئ والناقد والدارس للأدب فهم وتأويل مسار أي ناقد، لذلك، كان من الضروري أن يبحث الناقد في التكوين الثقافي والفكري لمحمد برادة من خلال التركيز على خمسة مراحل أساسية، وهي: مرحلة الدراسة بالمدارس الوطنية- مرحلة الدراسة بالقاهرة- مرحلة الدراسة في بارس- مرحلة العودة إلى المغرب والتدريس بالجامعة، ثم مرحلة ما بعد الجامعة، وإذا كان من دلالة يُمكن أن نستقيها من هذه المراحل، فهي دورها في إغناء وتخصيب الممارسة النقدية وإعادة النظر في المفاهيم والرؤى والتصورات، خاصة في ظل هذه الدينامية التي بات يعرفها النقد على مستوى العالم، لذا فإننا، نجد برادة دائم الاشتغال بقضايا الأدب والنقد وما يتصل بهما من تجديد في المفاهيم، وكذا في أدوات الاشتغال، والوعي بهذه الأشياء هو القمين باستكشاف آفاق جديدة في القراءة والنقد والتأويل.
كما عمل الخضراوي في هذا القسم على مواكبة مسار برادة النقدي، انطلاقًا من معرفته الواسعة بتاريخ النظريات، وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى برادة استفاد من الترجمات التي قام بها لأعلام الثقافة ا لعالمية كبارت وفانون وباختين وغولدمان وغيرهم، من هنا، نفهم سر هذا التنويع في المرجعية والخطاب، إلى درجة أن برادة يعتبر رائد النقد الحديث بالمغرب، وهو معطى شكل هويته الثقافية والنقدية، وإذا جاز لنا أن نحدد علامات ومعالم هذه الممارسة النقدية، فإنه يمكننا موضعتها ضمن تيار سوسيولوجيا الأدب من خلال مقولات لوكاتش وغولدمان وبورديو واسكاربيت، إضافة إلى تحليلات النظرية الجمالية مع أدورنو، دون أن نغفل الأثر السارتري ومفهومه للالتزام في الأدب. في القسم الثاني، الذي جاء تحت عنوان: «في مفاهيم الأدب والنقد والثقافة»، فقد ارتكز فيها البحث في المفاهيم التي شكلت عمارته النقدية كالالتزام والأدب والحرية والنقد والحداثة والمثاقفة وغيرها من المفاهيم، وهي إشارات على أن برادة اضطلع بمهمة الناقد التأويلي الذي سعى إلى إعادة النظر في النقد الأدبي وتشييد المفاهيم على أسس صلبة، لذلك، فقد حرص الخضراوي على استقصاء وتتبع هذه الدلالات في نقد برادة والعمل على مراجعتها وخلخلتها بوصفها جهودًا للقراءة والتأويل والإجابة عن أزمة النقد العربي.
لقد خاض الناقد في القسم الأخير من الكتابة، والذي جاء معنونًا بـ»في النقد الروائي» في أهم الأعمال النقدية التي قام بها برادة في حقل الرواية، وهي أعمال نقدية حاولت استكشاف مغامرات هذه الخطاب الأدبي، والتعرف على خصوصياته وسماته مقارنة مع باقي الخطابات الأخرى، خاصة أن الرواية، أضحت اليوم، أحد أهم الكتابات التي استطاعت التغلغل في الواقع والبحث في علاقة الأدب بالمجتمع والإنسان، ولعل ما يميز هذه الدراسات هو انفتاحها على التحليل السوسيولوجي للأدب، خصوصًا الشعرية الاجتماعية كما بلورها الناقد الروسي ميخائيل باختين، وفي هذا الإطار، نلاحظ أن برادة كان حريصًا على استنساخ هذه القراءات ومحاولة وضعها في سياق منافذ جديدة للقراءة والتحليل والتأويل.
هذه هي أهم القضايا التي حاول الكتاب النهوض بها، وهي قضايا أساسية تهم المادة الكتابية عند محمد برادة بوصفها كتابة تراهن على التنوع والتأويل، ولا غرابة أن يصف الخضراوي محمد برادة في كونه ناقدًا تأويليًا. لقد كان واضحًا أن برادة في تجربته النقدية، أنه ركز على المزاوجة بين الميتا- لغة وبين التطبيق، خاصة أثناء معالجته لنصوص روائية من مختلف الجغرافيات والحساسيات، إضافة إلى سعته وتنوع مصادر الخطاب لديه، من سوسيولوجيا الأدب والفورات اللسانية والهيرمينوطيقا التأويلية والشعرية الاجتماعية ونظرية الحقل والالتزام والمثقف العضوي، وهي كلها استقصاءات أسهمت في تبلور خطاب نقدي يرفض التحجر والانغلاق والتمركز تحت إسار الأيديولوجيا، وعليه، فإن هذه الإشارات تبرز بالملموس فهمه العميق للأدب والنقد والثقافة، وهي ما تزال قادرة على التطور والتجدد وصوغ أسئلة جديدة والوعي بها.
** **
رشيد الخديري - المغرب