مما يجري على ألسنة الناس وتألفه الأسماع قولهم: (أنتي فعلتي) و(فعلتِيهِ وضربتِيهِ) بياء بعد الضمير (تاء المخاطبة) على لغة المطل، وهي لغة شائعة لدى المنبعيين وغيرهم، ورأيتُ من ينكرها ويراها من لحن العامة، ولا يجيز فيها إلا الوجه الأفصح: أنتِ فعلتِ، وفعلتِه وضربتِه. وفرّق بعضهم بين ما فيه ضمير بعدها وما خلا من ضمير، فقَبِلَ (فعلتِيهِ وضربتِيهِ) ولم يقبل (أنتي فعلتي وضربتي)، لورود شواهد على مطل هذه التاء إذا كانت متبوعة بضمير.
ولتحقيق هذه المسألة أقول: ليست الياء في (أنتي فعلتي أو فعلتيه وضربتيه) منكرة ولا مستغربة في هذا الموضع، فهي ظاهرة صوتية قديمة تسمّى لغة المطل، كالواو في (أنتمو) و(عليكمو)، وقد وردت الواو الممطولة عن العرب، يقولون: ضربَهُو زيدٌ، وقد رواها سيبويه (1). ومَطْل الكسرة في (أنتِ) كمطلها في (اللاءِ)، يقولون: (اللائي)، وهما لغتان، وما أكثر لغات المطل!
ورُويتْ لغة المطل في تاء المخاطبة عن العرب في المصادر القديمة، ووصفها بعض اللغويين بأنها لغة رديئة كما سيأتي، ورُوي عن الأخفش في كتاب الأوسط (2) أنها لربيعة، وعزاها لهم الدماميني في تعليق الفرائد (3)، ووصفها بأنها لغة رديئة (4)، وعزاها أبو العلاء المعري في عبث الوليد (5) لعَدِيّ الرِّباب، وذكر أنهم يقولون: ضربتِيْهِ وأكرمتِيْهِ. ووردت في عدد من الأحاديث، مصحوبة بضمير بعدها. والمطل في نحو (فعلتِيهِ) أخف على اللسان من المطل في أنتِ.
وعند التفصيل في هذه المسألة أقول: إنّ لمطل الكسرة في تاء المخاطبة ثلاثَ صور:
أولاها: أن تكون الياء متبوعة بضمير، نحو: ضربتيه وفعلتيه.
والثانية: ألا تكون متبوعة بضمير، نحو: فعلتي.
والثالثة: أن تكون مع ضمير المخاطبة المنفصل: أنتي.
فأما الصورة الأولى - أعني مطل كسرة تاء المخاطبة مع ضمير الغائب بعدها نحو (فعلتِيهِ) - فمرويّة في اللغة عن الخليل وغيره، وذكروا أنها لغة قليلة أو رديئة، قال سيبويه: «وحدثني الخليل أن ناسًا يقولون: ضَرَبْتِيهِ، فيلحقون الياء. وهذه قليلة» (6)، ولم يصفها بالضعف كما فعل غيره، وقال سيبويه أيضا: «واعلمْ أن ناسًا من العرب يُلحقون الكاف التي هي علامة الإضمار إذا وقعت بعدها هاء الإضمار ألفًا في التذكير، وياءً في التأنيث؛ لأنه أشدّ توكيدًا في الفصل بين المذكر والمؤنث... وذلك قولك: أُعْطِيكِيها وأُعْطِيكِيهِ للمؤنث، وتقول في التذكير: أُعْطِيكاهُ وأعطيكاها» (7)، وقال: «وأجود اللغتين وأكثرهما أن لا تُلحِق حرفَ المدّ في الكاف» (8). وقال السيرافي في الشرح: « يريد أن الأجود أن لا تزاد على الكاف ألفٌ ولا ياءٌ، وإنما تزاد على الهاء؛ لأنها خفيّة خفيفة لشبهها بالألف، فاحتملت الزيادة لذلك» (9). ولم يتعرّض سيبويه للمطل في ما ليس فيه ضمير متصل بعد الياء، نحو فعلتي، ولم يتعرّض أيضا للمطل مع الضمير المنفصل: أنتِ.
وحكاها قطرب في تفسيره، قال: «وبعض العرب يُدخل الألفَ في كاف المذكّر توكيدًا، والياء في كاف المؤنث، فيقول: أعطيتكاه؛ يريد: أعطيتُكه، فيما زعم يونس، وللمؤنث: أعطيتُكِيهِ، وقال حسّان بن ثابت:
ولستِ بخيرٍ من أَبِيكِي وخالِكي
ولستِ بخيرٍ من مُعاظلةِ الكَلْبِ
وقالوا: وخالكا، فرَوَوه للمذكّر أيضا فأُدخل الألف، وهذا أقبح عندنا من أعطيتكِيهِ؛ لأنّ الياء صارت آخره» (10)، وحكاها عنه ابن جني، وقال: «وتزاد الياء أيضًا بعد كاف المؤنث إشباعًا للكسرة في نحو: عليكِي، ومنكِي، وضربتكِي، وروينا عن قطرب لحسان... » (11) وأورد البيت.
وحكاها ثعلب في المجالس (12) ووصفها بأنها لغة قليلة، وحكاها أبو بكر الأنباري (13) ووصفها بالقلة أيضا. ووردت على لسان بعض الشخوص في رسائل الجاحظ في قوله: «بكم بعتيني يا لخناء؟» (14)، وعلّق عليه عبد السلام هارون بقوله: «كذا في الأصل، وهو وجه جائز في العربية، يزيدون بعد تاء المخاطبة وكافها ياء» (15).
وممن رواها من المتأخرين نصر الهوريني، قال: «في لغة رَبيعة يُلحِقون الكافَ بألف الصلة في خطاب المذكَّر وبياء الصلة في خطاب الأُنثى فيقولون للرجل: رَأَيْتُكا، وللمرأة: رَأَيْتُكي، ويفعلون مثل ذلك في التاء أيضًا، يُلْحِقونها بألف الصلة للرجل، وبياء الصلة للأُنثى، فيقولون له: قُمْتَا، ويقولون لها: قُمْتي» (16).
ولغة الإشباع هذه مع التاء التي يعقبها ضميرٌ نحو (فعلتِيهِ) مرويّةٌ في جملة من الأحاديث، إذ جاء في الصحيحين: «لا أنتِ أطعمتِيها ولا سَقَيْتِيها حين حبستِيها، ولا أَنتِ أرسلتِيها فأكلتْ من خشاشِ الأرض». وقال ابن حجر في الفتح: «في رواية مُسلم: (لَئِنْ كُنتِ قَرَأْتِيهِ لقد وَجَدْتِيهِ) كذا فيه بإِثبات الياء في الموضعين، وهي لُغةٌ، والأفصحُ حذفُها في خطاب المُؤنّث في الماضي». وفي حديث عطاء بن يسار: «... فبينا هو معها في لحافٍ واحد إذا انسلّت، فقال : قد فعلتيها؟ قالت: نعم» (17)، وجاء في التوّابين لابن قدامة: «قال: فلِمَ تَفْعَلِينَ هذا ولم تَكُونِي فَعَلْتِيهِ قَطُّ؟» (18). وفي سنن الدارمي: «فقال لها: لو راجعتِيهِ فإنّهُ أَبو ولدكِ». وفي حديثٍ في بعض المسانيد والسنن: «بئس ما جَزَيتِيها» (19).
وأما الصورة الثانية - أعني ألا تكون التاءُ متبوعة بضمير - فشاهدها رواية أبي عبيد القاسم بن سلّام أنّ من كلامهم قولهم للمرأة: «أنتِ فعلتي ذاك وأنتِ ضربتيه، وسائر العرب فعلتِ ذاك وضربتِ» (20). وحكى أبو حيّان في الصورة الثانية قولهم: «ضربتي، بياءٍ ساكنة بعد الكسرة للمؤنث» (21).
وأمّا الصّورة الثالثة - أعني أن يكون ضمير المخاطبة منفصلا (أنتي) - فوردت في نصّ لابن الأثير الجزري في كتاب البديع في علم العربية، إذ قال: «قد أُلحقت تاء المؤنث في بعض اللغات ياءً، فقالوا: أنتي فعلتي، وأنتي ضربتيه، قال [الشاعر]:
رَمَيْتِيْهِ فأَقْصَدْتِ وما أَخْطَأتِ الرَّمْيَهْ
[بسَهْمَيْنِ مَلِيحَيْنِ أَعارَتِكِيهما الظِّبْيَهْ]
وهي لغةٌ قليلة» (22).
ومن اللطائف ذات الصلة بما نحن فيه زعمهم أنّ الكاتبة الشهيرة مي زيادة سألت العقاد في رسالة: لماذا تكتب لي (أنتي)، وليس (أنتِ) بكسر التاء؟ فأجابها: يعزُّ عليَّ كسرك حتى في اللغة.
وذكر الرافعي في كتابه تاريخ الأدب العربي أنّ الضمير أنتِ ينطق في السريانية: أنتي (23) بياء بعد التاء المكسورة. وتظهر ياء أنتي في بعض اللغات العُروبية (السامية) كالحبشية مثلا، وأشار إليها الأستاذ الدكتور عمر صابر في تعليق له على تغريدتي التي أثارت عاصفة من الجدل بين المؤيدين والمعارضين، إذ أشرت فيها إلى اللغة القديمة في (أنتي)، والدكتور من الباحثين المميّزين في العُروبيات (الساميات)، فقال: يؤكد ذلك ما نراه في الحبشية أخت العربية في قولهم: anty للمخاطبة في مقابل: anta للمخاطب، وقال: أميل إلى أنّ الياء هنا أصل للتفرقة بين المذكّر والمؤنث، كما ورد في لهجة ربيعة وغيرها، وهذه الياء نراها واضحة رسما ونطقا في الحبشية في ضمير الفاعلية كذلك، في نحو qatalky أي قتلني في مقابل qatalka للمخاطب (مع ملاحظة أن الكاف هنا في مقابل التاء العربية) وفي السريانية نرى الياء في ضمير المخاطبة في الفعل موجودة رسمًا، ولكنها غير منطوقة، وهذه إشارة إلى أصلها. انتهى كلامه.
وقال رمضان عبد التواب في حديث له عن الفعل المسند إلى تاء المخاطبة: «أما العربية الفصحى فقد قُصرت فيها الكسرة هنا، كما قصرت فتحة المخاطب المذكر.... غير أننا لا نعدم في الشعر والنثر القديم أمثلة من الكسرة الطويلة مع المخاطبة المؤنثة، كما قال الشاعر:
رميتِيهِ فأقصدتِ وما أخطأتِ الرَّمْيه
كما ورد في حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - : أعصرتِيه؟ ويروي سيبويه عن الخليل بن أحمد الفراهيدي أن ناسا من العرب يقولون: ضربتيه، فليحقون الياء. وهذا أمر شائع جدا في اللهجات العربية الحديثة؛ إذ يقال مثلا: كسرتيه وسمعتيه وما أشبه ذلك» (24).
وأقول في ختام هذه المقالة: إن ما حكاه علماؤنا في هذه اللغة يكفي لقبولها ضمن المستوى الأدنى من الأفصح، ولا يحق لأهل التفصيح التخطئة والإنكار، وأما وصفها بالقلة ففي النفس منه شيء، فالمعلوم بالنقل والعقل أن استقراء العربية ولهجاتها وعزو المسموع إلى قبائل العرب وبيئاتهم لم يكن وافيًا ولا دقيقًا ولم يؤخذ عن القبائل كلها، إذ وجدنا بعض ما يعزونه إلى قبيلة واحدة أوسعَ انتشارًا مما رووا وعزوا، كظاهرة القفقفة التي عزوها إلى تميم وحدها، وهي منتشرة في أكثر القبائل البدوية حتى سماها أبو حيّان وابن خلدون قاف العرب، ونسمّيها «القَيْف»، وكذلك «العنعنة» المنسوبة لتميم لم تكن خاصة بهم وحدهم، فكل القبائل البدوية الحجازية تُعَنْعِن إلى عهد قريب أدركناه وسمعناه من كبار السن مطابقاً لما وصفوه من عنعنة تميم. ومن هنا يراودني الشكّ في روايتهم للمطل في تاء المخاطبة، فلعل هذه اللغة أوسع انتشارًا في القبائل، فهذا المطل شائع في كثير من القبائل البدوية والحضرية لدى المنبعيين في بلادنا السعودية اليوم، لسهولته على اللسان. ولا أرى بأسًا في استعماله نطقا وكتابة في الصور الثلاث (أنتي) و(فعلتي) و(فعلتيه) وبخاصة في لغة التواصل والخطاب التفاعلي في اللهجة العامة البيضاء؛ وإن كان تجنبها هو المستوى الأفصح في لغتنا، كما أسلفت.
(1) الكتاب 3 / 189.
(2) رواها عنه أبو حيان في ارتشاف الضرب 2 / 912.
(3) 2 / 22.
(4) أتحرّج من وصف لغةٍ لقبيلة عربية من عصور الاحتجاج بالقبح أو الرداءة، بعلّة الشذوذ ومخالفة اللغة العامّة، فحسب، هذا جور، وقد وقع في هذا سيبويه وغيره رحمهم الله وغفر لهم.. فما تراه أنت قبيحًا هو حسن لدى أهله الفصحاء، إلا أن تثبت أنّهم ليسوا من أهل الفصاحة، ويكفي وصفها بالشذوذ.
(5) 226.
(6) الكتاب 4 / 200.
(7) الكتاب 4 / 200.
(8) الكتاب 4 / 200.
(9) شرح السيرافي 5 / 70 الطبعة اللبنانية.
(10) تفسير قطرب 2 / 40 ولم أقف على الشاهد في ديوان حسان، وهو في سر الصناعة 2 / 774.
(11) سر صناعة الإعراب 2 / 774.
(12) مجالس ثعلب 1 / 117.
(13) المذكر والمؤنث 1 / 212.
(14) رسائل الجاحظ 2 / 133.
(15) رسائل الجاحظ 2 / 133.
(16) المطالع النصرية 324.
(17) جامع الأحاديث ح44317.
(18) التوّابين لابن قدامة 1 / 50.
(19) ينظر: سنن أبي داود (3316)، ومسند أحمد 4 / 429، 430، والسنن الكبرى 5 / 231 (8762)، وابن حبان 10 / 237 (4392)، والبيهقي 9 / 109 من حديث عمران بن حصين.
(20) الغريب المصنّف 3 / 666 تحقيق محمد المختار العبيدي، وينظر تحقيق صفوان داوودي 2 / 419.
(21) الارتشاف 2 / 912، وينظر: التذييل والتكميل 2 / 132، كلمة سكنة ليست فيه.
(22) البديع في علم العربية 2 / 15.
(23) تاريخ آداب العرب 1 / 82.
(24) المدخل إلى علم اللغة 280.
** **
- أ.د. عبدالرزاق الصاعدي