د.شريف بن محمد الأتربي
بعد موجة من التهاني والتبريكات، والإعلانات والمتحدثين والمتحدثات، وآلاف التغريدات، من مغرّدين ومغرّدات، وغيرها من الجوانب الإعلامية المتعددة والتي نوّهت لحدث عظيم يشير إلى أن المملكة العربية السعودية تسير على الطريق الصحيح، لتحسين وتجويد وتفريد تجربة التعليم لطلابها، بحيث ترتبط المخرجات بالأهداف المخطط لها في برنامج تنمية القدرات البشرية المنبثق من (رؤية المملكة 2030)، والبداية مع المقالة هذه من الخبر التالي:
حققت المملكة العربية السعودية (8) جوائز خلال مشاركتها في معرض (آيسف) الدولي للعلوم والهندسة 2022م، والمقام في الولايات المتحدة الأمريكية، توزعت إلى (5) جوائز كبرى، و(3) جوائز خاصة.
ويعد هذا المعرض واحد من أقدم وأكبر المعارض العلمية التي يتنافس خلالها المشاركون في مجال الأبحاث العلمية للمرحلة الدراسية ما قبل الجامعية. وتنظم هذه المسابقة منظمة (مجتمع العلم) الأمريكية (https://www.societyforscience.org/)، وبرعاية شركة Regeneron، وكانت حتى عام 2019 تحت رعاية شركة إنتل (intel) الأمريكية أيضاً. ونافست السعودية في الجوائز الكبرى لمعرض (آيسف) 2021، بفريق ضم 30 طالباً وطالبة، قدموا 30 مشروعاً علمياً في عدة مجالات، بزيادة عشرة مشاريع عن العام السابق.
تشارك المملكة في المعرض ممثلةً في مؤسسة الملك عبد العزيز ورجاله للموهبة والإبداع (موهبة)، ووزارة التعليم. وتمثِّل (موهبة) حاضنة الرعاية والعناية للموهوبين في المملكة العربية السعودية، حيث تم تأسيسها في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز -رحمه الله- بموجب الأمر الملكي رقم أ/ 109، بتاريخ 13-5-1420هـ. ويعد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز -رحمه الله- أول رئيس لها منذ تأسيسها حتى وفاته.
وتهدف (موهبة) إلى اكتشاف ورعاية الموهوبين والمبدعين في المجالات العلمية ذات الأولوية التنموية، وهي تسعى للمساهمة في بناء منظومة وأنموذج للموهبة والإبداع محلياً وإقليمياً وعالمياً، مستمدةً ذلك من رؤيتها بتمكين الموهبة والإبداع كونهما الرافد الأساس لازدهار البشرية، ورسالتها الجليّة نحو إيجاد بيئة محفزة للموهبة والإبداع وتعزيز الشغف بالعلوم والمعرفة لبناء قادة المستقبل وخدمة الإنسانية عبر قيم الشغف، والتميز، والإبداع، والتعاون والثقة، ومن خلال أهدافها وتطوير خططها الإستراتيجية في رعاية الموهبة والإبداع ودعم الابتكار؛ استرشاداً بأفضل التجارب العالمية وبمساهمة خبراء دوليين ومحليين، وذلك سعياً إلى المساهمة الفاعلة في تحقيق مستهدفات (رؤية المملكة 2030)، وبناء الإنسان أينما كان والاستثمار في قدرته وإمكاناته وما يزخر به من طاقات موهوبة ومبدعة في شتى المجالات.
ولتحقيق هذه الأهداف؛ تقدم (موهبة) مجموعة من البرامج التي تساعد الطلبة على التميز والتفوق والمنافسة عالمياً من خلال استثمار موهبتهم وقدراتهم العقلية والعلمية، حيث تقدم البرامج التالية:
1 - برنامج موهبة الإثرائي الأكاديمي، ويتضمن عدة برامج تشمل: برنامج موهبة الإثرائي لما بعد المدرسة، وبرنامج موهبة التأهيلي للغة الإنجليزية، وبرنامج موهبة الإثرائي العالمي، وبرنامج موهبة الإثرائي المهاري، وبرنامج سفراء موهبة، وبرنامج موهبة الإثرائي مع كورسيرا.
2 - برامج تنمية البحث والابتكار، وتتضمن عدة برامج تشمل: برنامج موهبة لأساسيات البحث العلمي، برنامج تلمذة موهبة، وبرنامج موهبة الإثرائي البحثي، وخدمات تنمية البحث والابتكار، والأولمبياد الوطني للإبداع العلمي.
3 - برامج الشراكة مع المدارس، ويتضمن عدة برامج تشمل: فصول موهبة، وبرنامج موهبة المتقدم في العلوم والرياضيات.
وبعد هذا السرد للعضو الأساسي والأصلي في تحقيق هذا الإنجاز، أحب أن استعرض تجربتي مع (موهبة) وفصول الموهوبين، من خلال برنامج الشركات مع المدارس، بهدف تحديد سبب تحقيق المملكة لهذا الإنجاز من وجهة نظري.
في البداية، وخلال فترة عملي في مدارس الرياض للبنين والبنات، صرح المسؤولون فيها أنه تم عقد شراكة مع (موهبة) لدمج بعض طلابها الموهبين في فصول مدارس الرياض العريقة، ومع بداية العام الدراسي - لا أتذكره تحديداً- توافد إلى مقاعد الدراسة مجموعة من الطلاب حسب ما أخُبرنا به كمعلمين أنهم موهوبون، ولديهم إمكانيات غير عادية في مجالات علمية عدة، وكعادة النفس البشرية غمرني الفضول لمعرفة من هؤلاء الطلاب، ومع أول حصة دراسية لي معهم وكنت أدرسهم مادتي الاجتماعيات، والبحث ومصادر المعلومات؛ لم ينتابني ولا ينتابهم أي شعور غريب ناحية عملية التعلّم داخل فصول مدارس الرياض، وإن كانت لديهم رهبة المكان مما عرفوه عن تاريخ المدارس والأجيال التي تخرجت منها.
مرت الحصة الأولى لي معهم بخير، وكانوا جميعهم في فصل أولى أول ثانوي (نظام المقررات)، ومع الحصة الثانية - عدد الحصص 5 أسبوعياً- بدأ الطلاب يدخلون جو العلم والتعليم، لأجد نفسي محاصراً بمجموعة من العلماء والمثقفين الصغار، كل كلمة عندهم بقدر، وكل معلومة بمقياس، ولا يوجد لديهم أي هامش للخطأ، فمع أول زلة مقصودة أو غير مقصودة تجدهم حاضرين، يصوبون الخطأ ويثرون النقاش ويضيفون للمعلومة معلومات أخرى مفيدة وجديدة.
وفي هذه السنة الأولى أثمرت التجربة عن تحقيق واحد من هؤلاء الموهوبين الدرجة الكاملة لاختبار القدرات 100 %، وأعتقد أنها كانت المرة الأولى التي يحقق فيها طالب هذه الدرجة من المحاولة الأولى، مما دعا الجهة المشرفة عليه إلى إيقاف درجة الطالب وإخضاعه للاختبار مرة أخرى.
ومع بداية العام الدراسي الجديد بدأت الأعداد تزداد، وخصص لهؤلاء الطلاب فصلٌ خاصٌ بهم. كانت قمة السعادة لدي في التدريس في هذا الفصل، كل طرق وإستراتيجيات التدريس يمكن تطبيقها فيه، الفصول المقلوبة، المعلم الصغير، التعلم بالمشروع، التعلّم التعاوني، العروض، وغيرها... كل ذلك يدعمه استخدام أدوات التعليم الإلكتروني والتعليم عن بعد، وتوظيف الفصول الافتراضية في زيادة وإشباع النهم المعرفي لدى الطلاب.
وتزداد العملية التعليمية عمقا وتفريدا، بتخصيص مناهج خاصة لهؤلاء الطلاب إلى جانب المقررات الدراسية المعتمدة من الوزارة، وتتوسع قاعدة مشاركتهم في العديد من المسابقات، وتخصص لهم مدارس الرياض مجموعة من المعلمين الأكفاء الذين لا يبخلون ولو لحظة واحدة عن دعمهم وتقديم المشورة لهم عن طريق كافة وسائل التواصل.
وفي مرحلة من مراحل تعليمهم المتميز أجد نفسي مشاركًا لهم إنجازاتهم، حين بدأ الطلاب أنفسهم باللجوء إلي للرد على استفساراتهم المتعلقة بالأبحاث العلمية التي يعملون عليها، فكنا نجتمع لفترات طويلة معًا، أنهل من علمهم وأشاركهم تجاربهم وأفكارهم، ومع كل نجاح يحققونه كانوا يعودون إلي فرحين بما حققناه معًا من إنجاز حتى صرت بعد فترة وجيزة مرجعهم في مجال الأبحاث والمسابقات.
كل هذه المشاركات والمشاكسات أفرزت عدة نقاط متعلقة بنجاح رحلة التعلم للطالب والتي يمكن أن يستفيد منها جميع طلابنا وليس طلاب موهبة فقط، ومن أهم هذه النقاط:
- دور المعلم في العملية التعليمية واهتمامه بها وحماسه مع طلابه، فالطلاب لديهم شفافية ومشاعر تجاه كل معلم ويقدرون من يعمل لهم وليس من يعمل بنظام سدد وقارب.
- تفريد التعليم، كل طالب من هؤلاء الطلاب وجد اهتماماً خاصاً به وبموهبته، وتقديراً لشخصه، حتى ولو كان لديه ضعف في مادة ما هذا لا ينتقص من موهبته وقدراته، وهذه النقطة بالذات في غاية الأهمية، فقد تعود المعلمون على العمل مع الأذكياء فقط، وغالباً ما يهمل الضعاف أو يتم إلقاء اللوم على الغير في أسباب ضعفهم. وكذلك الموهوبون الذين لم يتمكنوا من إظهار موهبتهم لعدم قدرتهم على التعبير، وغياب عين الخبير.
- التركيز على المقررات العلمية المتقدمة والتي تلبي شغف الموهوبين وتحقق لهم راحة نفسية في التعرّف على أحدث المعارف والمعلومات في سياق موهبتهم، مما يزيد الإبداع والتفوق لديهم.
- التبني، وجود مؤسسة معنية تستكشف هؤلاء الموهوبين وتقدم لهم الدعم المادي والمعنوي مما يزيح العبء عن كاهل أولياء الأمور.
وأخيرًا وليس آخراً هذه النقاط ربما تكون هي الحلقة المفقودة في التعليم وخاصة تفريد التعليم.
مبروك لوطني الحبيب هذا الإنجاز، ومبروك لوزارة التعليم ولمؤسسة (موهبة).
** **
- مستشار تدريب وتعليم إلكتروني