عبدالرحمن الحبيب
صحيح أن آخر مرحلة من العولمة أنتجت ثروة أكثر مما عرفه العالم على الإطلاق، لكن لسوء الحظ، كما أوضح الخبير الاقتصادي داني رودريك، أنه مقابل كل دولار واحد من مكاسب الكفاءة من التداول التجاري، هناك عادةً 50 دولارًا في إعادة التوزيع للأثرياء. إن نتائجها الاقتصادية والسياسية هي السبب الرئيسي في أننا نمر الآن بفترة تفكك العولمة. هذا ما تقوله المؤلفة الأمريكية رنا فوروهار والمحررة في الفايننشال تايمز، التي لا توافق على توجهات منتدى دافوس والقول بحتمية العولمة أو الادعاء بأنه «ما لم نعد إلى الوضع الراهن للنيوليبرالية في منتصف التسعينيات، فالهلاك ينتظرنا.»
دارت الحوارات في اجتماع النخبة العالمية بمنتدى دافوس، حول تفكك العولمة وأصدر المنتدى تقرير «الكتاب الأبيض» عرض فيه أربعة سيناريوهات لمستقبل الاقتصاد العالمي على العالم الاختيار منها، سبق تناولها هنا بالمقال السابق، وهي اختصاراً: إعادة التكامل وتجديد العولمة؛ تكامل مادي وتجزئة افتراضية؛ تجزئة مادية وتكامل افتراضي؛ عالم الاكتفاء الذاتي. وقد كان واضحاً من صيغة طرح السيناريوهات أنه من الحكمة اختيار الأول، أي تجديد العولمة، وأن الخيارات الأخرى ستؤدي إلى العزلة وتزايد صدمات الأسعار وعدم الاستقرار السياسي وزيادة الإنفاق الدفاعي.. وهذا متوقع من منتدى يعد رمزاً من رموز العولمة بأن يحذر بطريقة غير مباشرة من خطر تفكك العولمة. لكن لن يمر ذلك دون تحدٍّ واعتراض..
تعترض فوروهار قائلة: يجب أن تخرج النخبة من البرج العاجي ويتحدثوا إلى المزيد من المديرين التنفيذيين وقادة النقابات؛ فبينما هم يناقشون الأعمال «المحتملة»، يمضي العمل قدمًا في الوقائع الجديدة لعالم ما بعد النيوليبرالية، ويتكيف بطرق إبداعية، وفي بعض الحالات، تعزز النمو. فالأسواق الناشئة في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، على سبيل المثال، تبني شبكات إنتاج إقليمية للسلع الحيوية، مما يمكن من خلق طرق تجارية أكثر مرونة ونماذج تنمية جديدة لا تركز بالكامل على تصدير البضائع الرخيصة إلى حفنة من البلدان الغنية عبر طرق النقل الطويلة التي أصبحت أكثر تكلفة ومثيرة للجدل السياسي.
غالبًا ما نميل عند الأزمات إلى العودة لطريقة التفكير القديمة لأنه لا يوجد حتى الآن نظرية مجال موحدة لعالمنا الجديد، لكن هذا لا يجعل النماذج القديمة أفضل.. وعالم ما بعد النيوليبرالية ليس سيئًا بالكامل أو جيدًا، بل مختلف تمامًا حسب فوروهار موضحة أن الأهم من ذلك، أنه انعكاس للواقع على الأرض، فالأعمال التجارية تسير ببساطة مع الواقع الجديد لعالم ما بعد النيوليبرالية.. لا ينبغي تشجيع القومية، لكن من الحكمة مساءلة الوضع الحالي للاقتصاد العولمي. في كل مكان تقريبًا، تتيح التقنيات اللامركزية والبيانات الضخمة مزيدًا من الإنتاج «المحلي»، وهو أمر يمكن أن يكون مفيدًا للعالم. التصنيع الإضافي هو موضوع مهم آخر على أجندة دافوس؛ على سبيل المثال، المنازل المطبوعة ثلاثية الأبعاد ليست فقط كحل سريع للإسكان بالمناطق المنكوبة، ولكن في البلدان الغنية مثل الولايات المتحدة كحل محتمل لتضخم الإيجارات.
تظهر الأبحاث أن الشركات كثيفة المعرفة بجميع أنواعها تميل إلى الظهور غالباً في مراكز التصنيع، مما يؤدي إلى مستويات أعلى من النمو في البلدان التي أنشأتها. إن التحول المستمر إلى المرحلة التالية من التطور الرقمي، من الإنترنت للمستهلكين إلى «إنترنت الأشياء»، سوف يُنشط هذا الاتجاه. نظرًا لأن البيانات تعيش في المنتجات المصنعة، لم يعد هناك فعلاً حد فاصل بين عمل المصنع والعمل المعرفي.
تقول فوروهار: ضع في اعتبارك شيئًا بسيطًا مثل إطار السيارة، عندما تصبح المركبات ذاتية القيادة، يصبح الإطار هو المحور الرئيسي لجمع المعلومات بين الطريق والسيارة ومراقبة الظروف وتتبع الحركة وما إلى ذلك. هنا، تعمل الشركات على دمج أجهزة الاستشعار في المنتجات لجمع هذه البيانات القيمة، والتي سيتم تحليلها من قبل عدد لا يحصى من الشركات والصناعات الأخرى، مما يخلق أعمالًا ووظائف جديدة تمامًا لا يمكننا حتى تخيلها. من يملك هذه البيانات؟ على الأرجح الشركات والبلدان التي تصنع المنتجات.
وتخلص فوروهار إلى أن «العولمة ليست حتمية، على الرغم مما أخبرنا به السياسيون في التسعينيات. لكي يعمل الاقتصاد السياسي، يجب أن يلبي الاحتياجات المحلية. التحولات التي نمر بها اليوم تجلب معها كل من التحديات والفرص. وبهذا المعنى، فإن تفكك العولمة ليس مختلفًا تمامًا عما كان عليه من قبل.»
الصدمات الجيوسياسية والاقتصادية والسياسية المتداخلة تواجه عالم اليوم حسب البروفيسورة بجامعة كامبريدج هيلين طومسون مؤلفة كتاب «حالة اضطراب: الأوقات الصعبة في القرن الحادي والعشرين؟» موضحة أن القرن الحادي والعشرين مثَّل حالة مزعجة لدول شمال الأطلسي: أزمات مالية، تراجع التصنيع، تزايد البطالة وعدم المساواة وتقويض الاستقرار الاجتماعي مما أدى إلى تنامي الشعبوية.. الخ. كل ذلك قبل جائحة كورونا وقبل الحرب الروسية في أوكرانيا.. وتتساءل: هل كان بإمكان الغرب تجنب أيًّا من هذه الاضطرابات؟ أم أن دوله لم تكن قادرة وستظل عاجزة في مواجهة «الصدمات التي تحركها هيكليًّا، والتي تعاقبت آثارها من مكان إلى آخر في المجالات الجيوسياسية والاقتصادية والمحلية»، كما تقول في كتابها الذي سيتم استعراضه بالمقال القادم.