د. عيد بن مسعود الجهني
سجَّل التاريخ النفطي صحوات عدة لأسعاره بعد أن بقي بين عام 1860 - 1973 في شبه سبات عميق، رغم الحروب المدمرة التي شهدها القرن المنصرم وفي مقدمتها بالطبع الحربان الكونيتان، فعام 1973 شهد الحرب الإسرائيلية العربية، وتحديداً في شهر رمضان المبارك - أكتوبر من ذلك العام ليرتفع السعر من (1.8) دولار إلى (4) ثم إلى (11) دولاراً ليصبح سعر النفط مرتبطاً في مسيرة ارتفاعه بالحروب.
وقد مثلتا شرارة ثورة الخميني والحرب العراقية - الإيرانية شعلة ارتفاع الأسعار الثانية التي أضاءت الطريق لعصر إمبراطورية «الأوبك» الذهبي، فقد شهدت السوق البترولية تشنجاً غير مسبوق وتهافتت الدول الصناعية التي تستهلك 75 في المئة من إجمالي استهلاك العالم من النفط وشركات البترول الكبرى على سوق النفط لزيادة مخزونها، وتزايد دور المضاربين، وهو ما جعل السعر يتراوح ما بين 39 و40 دولاراً للمرة الأولى في تاريخ أسعار النفط في أواخر 1979وأوائل 1981 .
بعد ذلك الارتفاع الصاروخي للأسعار بدأت مسيرة الهبوط لتبلغ (7) دولارات للبرميل في أواسط الثمانينيات وتبقى هكذا لينتشل الغزو العراقي للكويت في أغسطس 1990 الأسعار من الهاوية فرفعها من 12 دولاراً إلى حوالي 36 دولاراً، لكنها عادت إلى الانحدار بعد توقف العاصفة التي هبت على العراق آنذاك لتصل إلى (13.5) دولاراً للبرميل عام 1994، بل إنها انحدرت إلى أقل من (10) دولارات في أوائل عام 1998 لتستمر على هذا المنوال حتى غروب شمس القرن المنصرم.
وقد جاءت النقلة الكبرى لأسعار النفط مع حرب احتلال العراق، لتشتعل أزمة الأسعار التي أخذت مسيرتها التصاعدية متفاعلة مع أسبابها، وفي مقدمها الصراعات والنزاعات والحروب الدولية والتضخم والعوامل الموسمية والمضاربات وانخفاض سعر صرف الدولار الأميركي الذي يسعر به النفط، أمام العملات الدولية.
وبقي حال الأسعار مرتفعاً منذ 2003 حتى كسر حاجز (147) دولاراً للبرميل قبل أزمة الكساد العالمي عام 2008 لتعود الأسعار إلى الانحدار مرة أخرى لتبلغ (33) دولاراً للبرميل، الأمر الذي أجبر الأوبك على تخفيض إنتاجها المرة تلو الأخرى لتحقيق سعر عادل لنفوطها، بل إنها من أجل تحقيق هذا الهدف سعت إلى انضمام دول أخرى منتجة للنفط لضمان المرونة بين العرض والطلب وتحقيق سعر عادل، ومع ذلك التعاون استطاعت الأوبك في عام 2018 وتحديدًا في شهر أكتوبر أن تحقق سعراً كسر حاجز الـ(86) دولارًا قبل أن يعود مرة أخرى إلى التراجع ليبلغ 50 دولارًا.
ولأن الأسعار ومعها الإنتاج تدفعها الحروب إلى أعلى لتبلغ الثريا، فإن الكوارث خاصة الأوبئة والأمراض تدفعها إلى الأدنى بسرعة الريح، لذا فإن الأسعار قبل جائحة كورونا كانت قد بلغت الـ(100) دولار، لكنها ومع هبوب الجائحة بدأت رحلة الأسعار بالتدني لتبلغ ليلة سقوط النفط (صفر) وتعذّر تخزين براميل البترول على السفن واليابسة وحتى في الكهوف.
لكن إمبراطورية النفط (أوبك) وحلفاءها شمّروا عن سواعدهم، بادئين في تخفيض إنتاجهم مرة بعد أخرى وخلال فترات قصيرة من التخفيضات استطاعوا الـ(23) عضواً في النادي النفطي الواسع أن يعيدوا السوق إلى مساره الطبيعي رغم أن جائحة كورونا ما زالت في بعض الدول ترفع رأسها.
وقد بقيت الأسعار قبل الحرب على أوكرانيا متماسكة إلى حد كبير حول الـ(100) دولار، ولأن حرب 1973 منقذة لأسعار كانت منخفضة لقرن ونصف، فإن حرب أوكرانيا تشبهها إلى حد كبير في رفع أسعار النفط ويمكن تطلق عليها الصدمة الثالثة في أسعار النفط، فمع دخول الحرب يومها السابع ارتفعت الأسعار فوق (110) دولارات للبرميل ثم إلى (113) دولاراً للبرميل.
وعلى الجانب الآخر انهار الطلب على النفط الروسي الأمر الذي جعل روسيا صاحبة الإنتاج فوق الـ(10) ملايين ب/ي تبحث عن مشترين لنفطها بسبب العقوبات القاسية التي فرضت على ذلك البلد.
وإذا كانت الأسعار لبرميل النفط بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا قد بلغت (139) دولارًا قبل أن تعود إلى الانحدار قليلاً، فإن القرار الذي توصلت إليه دول الاتحاد الأوربي بتاريخ 30 مايو الماضي القاضي بالاتفاق على حزمة سادسة من العقوبات على روسيا في مقدمتها وقف وارداتها من النفط الروسي بحوالي (90) في المئة في نهاية هذا العام، وهذه نسبة كبيرة إذا عرف أن أوربا تستورد (4.5) مليون ب/ي من النفط الروسي.
هذا يبرر بوضوح أن أوربا تعتمد على النفط الروسي باعتباره على مرمى حجر منها، لذا فإن وارداتها من النفط الروسي تمثِّل (27) في المئة، إضافة إلى (40) في المئة من احتياجات الاتحاد الأوربي من الغاز الروسي، ويدخل الخزائن الروسية حوالي (400) مليار يورو مدفوعات من الاتحاد الأوربي مقابل وارداتها من النفط والغاز الروسيين، وهذا يوضح مدى خسارة روسيا المالية، رغم أن الغاز الروسي حتى الآن خارج مظلة العقوبات.
وما إن صدر قرار دول الاتحاد الأوربي حتى تجاوبت الأسواق البترولية لترتفع الأسعار لتبلغ ما بين (116 و120) دولاراً للبرميل ويتوقّع أنها في مسيرتها للارتفاع، وعلى الجانب الآخر تبحث روسيا عن مشترين لنفطها بأسعار قد تقل عن سعر السوق الدولية للبترول، وبالفعل لها اتصالاتها مع كل من الهند والصين وهما دولتان مستوردتان من الحجم الثقيل.
وإذا كانت سماء النفط تمطر ذهباً في زمن الحروب والنزاعات والصراعات، وتدخل خزائن الدول المنتجة خاصة دول مجلس التعاون الخليجي مبالغ فلكية تدعم ميزانياتها فإنه من المهم أن تستثمر هذه المداخيل من النفط في دعم المشاريع الرئيسية وتخفيض الدين العام وزيادة حجم الصناديق السيادية، والضمان الاجتماعي، وليمتد الخير ليشمل الأجيال القادمة ليستفيد الجميع من الثراء.
والله ولي التوفيق،،،
** **
- رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة