د.صالح زياد
هناك أكثر من سبب يجعل سيرة حمزة المزيني لافتة للنظر. وأول الأسباب اضطلاعه بمواجهات نقدية شجاعة جلبت عليه خصومات واختلافات ومتاعب، وعرَّضته لضروب شرسة من الاتهامات والهجوم اللفظي والتهديد البدني. وكانت هذه المواجهات النقدية متعددة الموضوعات والسياقات؛ فمن مواجهات مع قيادات ذات سطوة مؤسسية واجتماعية في الخطاب الديني، ومواجهات مع شخصيات أكاديمية أو ثقافية أو صحفية. إلى مواجهات في قضايا منهجية معرفية، وموضوعات عقائدية وثقافية، ومسائل حقوقية وإدارية ومواجهات مع المؤسسات والهيئات الرسمية. وفي كل الأحوال لم تكن مواجهات المزيني هذه آمنةً ولم يكن هناك ضمانات في إطارها الزمني الثقافي والاجتماعي لتنتهي بسلام، فضلاً عن أن تنتهي بالشكر له أو الثناء عليه.
وبعيداً عن هذه الصفات السياقية لمواجهات المزيني النقدية، فقد كانت مواجهاته في حد ذاتها لافتةً بسبب ما يتوافر فيها من بناء حجاجي، وقوة بيانية، واستقصاء مرجعي ومعلوماتي مضنٍ، وقدرة على اكتشاف الثغرات والمزالق والحيل المريضة. وكانت إلى ذلك معتدَّةً بحسِّها الذاتي، وانحيازها إلى الوطني والعقلاني والعلمي والتنويري. وعلى الرغم من هدوئها ووقارها في مجمل الأحوال فقد كانت تمارس أحياناً سخريةً مريرةً، وحشداً وتأليباً على من توجِّه نقدها إليها. وهي إلى ذلك مواجهاتٌ في صيغة مقالات صحفية، وليست كتباً أو أبحاثاً في مجلات متخصصة، وهو ما حقَّق لها ذيوعاً ومقروئيةً عالية في زمن كانت الصحيفة اليومية جزءاً مما يحمله أحدنا عند عودته إلى منزله.
ولعل من الصعوبة بمكان أن نجد أحداً، من ذوي الوعي، في سياقنا الثقافي الاجتماعي الذي تولَّدت فيه مواجهات المزيني النقدية تلك، خارج الاهتمام بها. فهو ضدها أو معها بلا مواربة، سواء كان على اطلاع مباشر عليها أو على ردود الفعل والأحاديث العمومية عن موضوعاتها وأشخاص المتحاورين فيها واتجاهاتهم. وهي من هذا المنظور أو ذاك تعبيرٌ عن انقسام ثقافي اجتماعي حاد تجاه المستقبل والواقع، وتجاه الحداثة والتقليد، والعلم والخرافة، وسائر ما يتصل بأوجه التقابل الحادة في هذه الأزواج من استقطابات وتداعيات.
وبالطبع، لم يكن المزيني وحده، في هذا المعترك، ولم تكن معاناته فريدة واستثنائية كما قد يبدو. خصوصاً وأسماء الذين نجح خصومهم في الإيقاع بهم، وانتهوا إلى الفصل من العمل، أو الحرمان من الشهادة، أو السجن، أو العزلة والاغتراب، أشهر من أن تُعرَّف. لكن ميزة المزيني هنا، هي في نطاق المواجهة التي اضطلع بها وفي قدرته على الثبات واستعصائه على التطويع. فلم تكن مواجهاته النقدية، موضوع الحديث هنا، محصورةً في موضوع تخصصي بحت، لم ينحصر، مثلاً، في نقاشات الحداثة الأدبية، ولم يضطلع بدور تنظيري وفلسفي مجاوز لنطاق الوعي العام. وكان عمومُ موضوعات نقاشه ومحاوراته يقترن بانتقائية معينة لما هو حسَّاس ومثير للتوتُّر بحسابات عامة الناس وخاصتهم، وبانتقائية لمستوى الأشخاص (أو المؤسسات) الذين تتصل تلك الموضوعات بهم. أما قدرتُه على الثبات واستعصاؤُه على التطويع فليست بسبب شجاعته وحدها، بل تعود أيضاً إلى رسوخ قدمه أستاذاً جامعياً، وإلى رصانة لغته وتعاليها إلى حد بعيد على الإسفاف والسباب. وكان القدَر في حالة وحيدة، ربما، حليفَ نجاته.
أما السبب الثاني الذي يُضفِي أهميةً على المزيني وسيرته، فهو الجيل الأكاديمي والمثقَّف الذي ينتمي إليه في سياق ثقافتنا السعودية. فقد كان حمزة المزيني واحداً من الجيل الثاني في تكوين الأكاديمية السعودية والإنسانيات منها على وجه الخصوص. الجيل الذي حظي، كما هو حال الجيل الأول الذي كان أقل عدداً، بفرصة الابتعاث إلى الخارج، والعودة بالدكتوراه في زمن كان الحصول عليها حدثاً خارقاً اجتماعياً بسبب قلة الحاصلين عليها ومقتضيات إحرازها والقدرة على تمثيلها بمسؤولية وجدارة. ولم تكن أهمية هذا الجيل في الثقافة السعودية تعود بكاملها إلى علاقة احترام ثقافي لأبنائه وتكوينهم العلمي، ولا لما يُفتَرض أن يمثلوه ويرمزوا إليه وهو المنهجية التي تطمح إلى معاينة الإنسانيات ودراستها بمنطق العلم في أحدث تجلياته، وما يتفرع عن ذلك ويتصل به من طموحات إلى التقدم الاجتماعي. بل، على العكس، كانت هذه الأهمية، منذ الثمانينيات الميلادية، انعكاساً عن الحرب على هذا الجيل، وعلى الفاعلين فيه تحديداً، ضمن تصاعد الحرب على طموحات التقدم والحداثة والناشطين في سبيلها بوجه أعم من الانحصار في جيل أو فئة معينة.
كان يلتقي، إذن، في الدلالة على أهمية جيل المزيني وخطورته، في خضم تصاعد تيارات التقليد والأصولية، منذ الثمانينيات، جانبُ الثقة في العلم والتقدم والفكر الحديث، وهو الجانب الذي يرمز إليه هذا الجيل، أو يُتَّخَذ رمزاً عليه، حتى وإن لم يمثِّله أو يتمثَّله كل أفراده، وجانبُ التخوين له والطعن عليه وعدائه الذي كان، فيما كان، ذريعةً للإعلان عن اتجاهات عقائدية مناقضة، والتبرير لها بدعوى ما سُمِّي، في أدبيات هذه الاتجاهات العقائدية، بـ«الأصالة» في مقابل ما سُمِّي أيضاً في الإطار نفسه، بـ«التغريب». وبالطبع كان هناك رموزٌ من الصحفيين والشعراء والنقاد والكتاب، أكثر تصدياً وتعرضاً للأذى من هذا الجيل الذي نتحدث عنه، لكن إحراز الفاعلين من هذا الجيل، أمثال المزيني، للشهادات العالية، ورسوخهم في وظائف الأستاذية الأكاديمية، هو الفارق؛ فلم يكن اقتلاعُهم ولا إسكاتُهم ميسوراً وإن لم يكن مستحيلاً.
وأظن أن السبب الثالث الذي يلفت النظر إلى سيرة حمزة المزيني، يعود إلى تكوينه ونشأته. فقد نشأ يتيم الأب، وغالَبَ مع أمه وإخوته صعوبات الحياة ومرارات فقْد الأب في مجتمع ريفي على حافة البادية، أو بدوي على حافة الريف، أو هو مجتمَعٌ من مزيجهما الذي يلتقي فيه الرعي والزراعة. وكانت هذه النشأةُ راسخةً في تكوين المزيني وعصاميته واعتداده بذاته. والمهم أن لهذه النشأة وهذا التكوين جاذبيةً واسعة النطاق فيما يحكيه المزيني عن حياته. وهي جاذبيةٌ لا تعود من منظور القراءة إلى الإشفاق على اليتيم والتعاطف مع البؤس، بل على العكس إلى الاعتزاز ببطولة من هذا الطراز، خصوصاً وهي بطولة امتلكت من الصلابة والرصانة والعفاف والجدية والنجاح ما يزكِّيها ويبرِّر الشعور بها.
ومن المؤكد أن ثقافتنا أفادت من حمزة المزيني كثيراً على أكثر من مستوى، فهو مؤلفٌ بارع في مجال اللسانيات، وهو تخصصه الأكاديمي الذي تعمق فيه وأثراه بعدد من الكتب والأبحاث. وهذه العلاقة باللسانيات الحديثة تحيلنا على وجهة فكرية عميقة في الوعي ببنية الكينونة الإنسانية وتواصليتها وجوهرية اللغة فيها، وهي الوجهة التي تُصَادِم الأفكار الرائجة عربياً عن اللغة والثقافة، من وجهة ما استحالت إليه هذه الأفكار من قيد على حركة الفكر، ومن فرْض للتقليد والسكونية. وإلى ذلك فالمزيني مترجم بارع، وقد أثرى الوعي العربي بعدد من الترجمات المنتقاة وذات الأثر العلمي والثقافي. أما سلوك المزيني وخُلُقيته بالمعنى العملي فهي بابٌ واسعٌ للحديث عن أثر إيجابي فاعل للمزيني ينبغي إشاعته والتعريف به. فلم يكن المزيني قابلاً للمهادنة أو التغاضي في أمور تتصل بأخلاقيات العلم والنزاهة، أو بمنطق العقل، ولم يكن يقبل تسوَّل الرضا عنه والمدح له، وكانت تضحيتُه مرتين بالتعاقد مع الجامعة، بعد تقاعده، مبرَّرةً من هذه الوجهة الخُلُقية. فضلاً عن غير ذلك من الشواهد عليها المبثوثة في معاركه ومواجهاته العديدة.
وأخيراً، يأوي أبو فارس إلى حضن أسرته الدافئ، مع زوجته الكريمة التي كانت رفيقة الرحلة المضنية وسَنَدها في كل منعطفاتها، ومع بناته الفضليات الدكتورات مشاعر وشذى وميادة، وابنه الهمام فارس، فَلْتَقر عينُك أيها الصديق «كما قرَّ عيناً بالإياب المسافرُ».
** **
- أستاذ النقد الأدبي بجامعة الملك سعود