د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
حين التحقت في قسم اللغة العربية في السنة الثانية من دراسة كلية الآداب كان أستاذنا أبوفارس حمزة بن قُبلان المزيني في السنة الرابعة، أي يسبقني بسنتين، كانوا ثلاثة فرسان حمزة المزيني وعبدالله المعيقل وسعود الرحيلي، يخرجون بعد كل حصة ويصطفون مطلين على فناء الكلية، مجموعة خاصة لم نتجرأ على اقتحامها كان لهم من الهيبة في أنفسنا ما يمنعنا من ذلك، لم أخاطب عبدالله المعيقل إلا حين كان معيدًا وكلف شأن اللجنة الثقافية وأراد إصدار مجلة فاشتركت بقصة متواضعة أخبرني أنه أصلح ما فيها من أخطاء.
عرفت الدكتور حمزة معرفة قوية حين عدت من البعثة وكان أستاذًا في القسم، كان للمستوى العلمي الذي ألزم به نفسه أثرٌ في تعامله مع طلابه ومع غيرهم، كان يريد من الطلاب أن يكونوا على مستوى المسؤولية وأن يكونوا جديرين بالبحث اللغوي، وهو على حقّ في ذلك؛ ولكن السقف الذي يتطلع إليه يراه الطلاب صعبًا، دونه خرط القتاد، ولذا لم يشرف إلا على طالب واحد هو خالد الحجيلان. وهو بذلك مثل الدكتور إبراهيم أنيس الذي لم يشرف إلا على طالبين هما (عبدالعزيز مطر) و(عبدالصبور شاهين).
ويظهر هذا المنهج العالي في قراءاته والتعليق عليها، فهو يقرأ كتابات د.رمضان عبدالتواب فيكتب عن الخلل المنهجي فيها بمقال نشر في صحيفة الرياض، ويعقبه بكتابة عن الخلل المنهجي عند طلاب رمضان، وكتب كتابة مطولة عن آراء د.لويس عوض في كتابه (مقدمة في فقه اللغة العربية) وهو حول العلاقة بين اللغات الهندية الأوروبية ومجموعة اللغات الحامية والسامية، ومن ليس له خبرة بهذا الكتاب سيجد متعة بحسن عرض أستاذنا لجوانبه ولرد كثير من المقولات المتوقف فيها.
وأستاذنا من قراء اللسانيات بالإنجليزية ومن المزاولين الترجمة باقتدار عليها وباجتهاد في تجويدها؛ لذلك كتب ملحوظات حول ترجمة الدكتور كبة لما كتبه جونز لينز عن تشومسكي، وعرفت مدى تجويده لعمله؛ لأنه ربما عرض عليّ مسودات بعض ما يترجم ليطمئن على السلامة اللغوية وأن الصبغة التركيبية للغة الأعجمية غير مؤثرة في الجملة العربية.
اجتهد أستاذنا في قراءة بعض الكتب وكتب عنها مراجعات، مثل كتاب (لغة قريش) لمختار الغوث، ومثل كتاب (المرأة واللغة) لأستاذنا عبدالله الغذامي وكانت ملحوظات د.حمزة على (المرأة واللغة) ذكية عميقة معتمدة على علم نحوي لساني، ووفق في اقتراحه أن يكون اسم الكتاب (المرأة والثقافة)؛ إذ كشف أن المشكلة ثقافية لا لغوية. وكتابته مقنعة ممتعة.
ولم يقف أستاذنا عند مسائل اللغة إذ تعداها إلى بعض المسائل الاجتماعية الخلافية، وكان له رأي ربما توقف فيه كثير من الناس؛ ولكنه كان جريئًا صُلبًا في بيان ما يراه الحقَّ والدفاع عنه، وتحمل ما ناله من الأذى بسبب ذلك.
كان بيننا تعاون علمي فكنت قرأت له بعض مسودات ترجماته وأردت مرة أن أكتب بحثًا أقلد فيه طريقة اللسانيين في الكتابة ووضع المعادلات واجتهدت في ذلك ما شاء الله لي أن اجتهد؛ ولكن الأمر اقتضى أن يستفتى فيه خبير، فعرضت البحث على الدكتور حمزة، وقرأه في عناية شديدة ودعاني لمناقشته، فلما استطمنته عنه قال: لولا أنه جيد ما دعوتك لمناقشته. وسهرنا الليل متتبعين مفاصل البحث وساعدني في كتابة المعادلات الصوتية.
كان رئيسًا لقسم اللغة العربية مثقلًا بأعباء الإدارة التي لا تصلح لعالم لغوي فتنته القراءة بالعربية والإنجليزية، ولذلك وقع بيننا خلاف في بعض الإجراءات الإدارية، ولكنها خلافات لم تفسد للود قضية، إذ مضت بانقضائها، وليس أدل على ذلك من موقفه حين رقيت للأستاذية وقابلني في ممر القسم بابتسامة فرح، وقال ذلك اليوم معبرًا عن فرحه «أريد أن أقبّل رأسك». ووجدته لي مشجعًا بطريقة عفوية فهو يثني على بعض كتبي ويخبرني أنه أوصى بها طلابه. وهو يثني على بعض ما كتبته، لقيته في مدخل صالة أعراس فشكرني على ترجيحي لاستعمال (رئيسية) لا (رئيسة).
عرفت أستاذنا أبا فارس واسع الصدر، لا يثيره الانتقاد ولا يغضبه الخلاف، ألقى كلمة في مجلس حمد الجاسر وطلبت التعقيب فرددت بعض ما جاء في المحاضرة في شيء من القسوة واتهمته بالتناقض؛ لأنه علق على محاضرة في مركز الملك فيصل بما يناقض ما أورده في محاضرته، فتقبل مني ذلك بابتسام ورضًا. وهو يكرمني بثقته في رأيي، اتصل بي يومًا وقال هل قرأت ما كتبته عن الدكتور عبدالرزاق الصاعدي؟ قلت: لا، قال: أريدك أن تقرأ وأن تبدي رأيك. قلت له: ولكن قد لا يعجبك ما أكتب، قال: أنا راضٍ بما تقول. وأرسل لي ما كتب، وكتبت مقالًا نشر في زاويتي (مداخلات لغوية) في المجلة الثقافية، وجاء في المقال نقد لبعض ما جاء في قوله، حاولت أن أكون منصفًا للعالمين الجليلين، ولذا فزت بمحبتهما معًا.
حياة أستاذنا كلها للعلم قراءة وكتابة، تقرأ له ما يدهشك ويعجبك، وقد تتوقف في بعض ما كتب؛ ولكنك في كل الأحوال لا تملك إلا الإعجاب بهذا العالم الجليل.