د. إبراهيم بن محمد الشتوي
تكررت هذه الحوادث في الكلية والجامعة وبعض المطاعم التي التقيهم بها، ووقع بيننا خصومات وملاحات، فتعجبت لهذه الأخلاق التي يتصفون بها، ولا تصلح للقرن العشرين فضلاً عن أن تستخدم في القرن الحادي والعشرين، كما أنها لا تصلح أن تكون في الشارع في إحدى قرى العالم الثالث فضلاً عن أن تكون في لندن المدنية، وفي مدارس اللغات والجامعة حيث يتسم الناس بغاية التهذيب، واللطافة، ومراعاة قواعد التعامل والتواصل المعياري، لماذا لا يحاول هؤلاء أن يتعاملوا بالأدب، وأخلاق أبناء الناس ومن يعرف الأصول، حتى ولو لم يكونوا كذلك! وحرت في تفسير لها مستبعداً أن يعود سببها إلى عقدة ثنائية الخليجي وغير الخليجي، والتي يستشهد عليها بعضهم ببعض الحوادث التي ظهرت إبان حرب الخليج الثانية.
صحيح أن كثيراً منهم يفتقر إلى أبسط مستوى الثقافة والمعرفة، وأن حظهم من التعليم قليل، وهذا ما يدفعنا إلى ترجيح التفسير الآخر، وهو أن هؤلاء الشبيبة إنما يتمثلون ثقافة متوارثة في مجتمعهم تمثلت فيما يسمى أحياناً بالشخصية «البلدية»، وهي التي تتميز بعلو الصوت، والصخب، وعدم مراعاة المواضعات الاجتماعية عند الحديث، الذي يحضر في كل مكان، ويتولى زمام الأمور والتي يطلق عليها (أبضاي) بمعنى قوي ونشيط، ومبادر.
إلا أن هذه الشخصية انتهى دورها سواء كانت تنتمي إلى السياق المذكور هنا أو في المقالة السابقة، بناء على التطور الذي أصاب المجتمعات الإنسانية بوجه عام، وتحدد طرائق التعامل المختلفة بحيث يكون لكل موضع ما يناسبه، وتفصيل الحقوق والحدود، بحيث لا يتجاوز أحد حده، ولا يأخذ ما ليس حقه.
غير أن حضور هذه المسلسلات التي تعنى بتاريخ حقبة تعود إلى القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، أدى إلى تعزيز حضور الشخصية الأبضاوية، وبعثها في الذاكرة من جديد، وإكسابها حضوراً قوياً، تتمكن من خلاله من أن تكون ملهمة لعدد من الجيل الناشيء في تمثل تلك الصفات، وإعادة إحيائها بوصفها تمثل الشخصية السوية.
وهذا سيدفعنا إلى الحديث عن هذا النوع من المسلسلات (أي الحقبة العثمانية والفرنسية)، فهي في الحقيقة تدرج في المسلسلات التاريخية، وإن كانت لا تعود إلى التاريخ البعيد، وإن كان الناس لا يزالون يتذكرون تلك الحقبة، ويتصلون بها بصورة من الصور، لا يعجزون معه عن إعادة العيش على منوالها.
يدرج النقاد الأعمال الفنية من هذا النوع في «القناع»، والتي تعني أن الكاتب والمخرج يتخذ هذه الحقبة التاريخية بما تمثله من ديكور، ولباس ولغة قناعاً، يتناول به قضايا سياسية واجتماعية قد لا يتمكن من قولها مباشرة، أو ربما لأن الفن لا يميل إلى أن يقول ما يقول مباشرة.
ومع أن تمثيل هذه الحقبة لا يكلف شيئاً من الناحية المادية، فيكفي المخرج أن يذهب إلى أحد الأحياء الشعبية، ويرتدي الممثلون ملابس تعود إلى تلك الحقبة حتى يتمكن من إنتاج هذه المسلسلات، إضافة إلى الإكثار من بعض اللوازم اللغوية التي تدور فيها، من مثل: «أولي ابن عمي»، أو «لأصبحك بقتلة وأمسيك بقتلة»، ثم تجيبه المرأة: «أهون عليك ابن عمي».
فإن الإشكالية أن هذه المسلسلات بما تلقاه من رواج كما تحدثت في المقالة السابقة، تشيع ما تمتلئ به من ثقافة تتمثل بمفردات تلك الحقبة الاجتماعية على وجه الخصوص، من مثل شخصية (الأبضاي) الآنفة الذكر، ومن مثل طريقة تعامل الرجال مع النساء، خاصة ضرب الزوجات.
هذه المكونات تتداخل بالبناء الفني المتكامل ما يجعلها سائغة مقبولة. هذه المقبولية تبدأ من الإدهاش، والرغبة في تمثل الحقبة نفسها، وتتدرج من خلال التعود إلى المقبولية بوصفها جزءاً من التراثي الاجتماعي.
وحين ترتبط هذه المسلسلات بالتاريخ، فإن هذا يمنحها بعداً أعمق في الوعي إذ إنها تصبح جزءاً من سرديات التاريخ القومي، وهو ما يتجاوز وظيفة التسلية والإمتاع إلى تأثيث الحاضر (هذا يذكرنا بوظيفة السرد في تكوين الهوية عند شتراوس)، وهو ما يمثل أداة إقناعية جيدة تمر من خلالها تلك السلوكيات الخاطئة التي عفا عليها الزمان، ويعيد إنتاجها سواء شخصية الأبضاي أو ضرب الزوجات.
خاصة عندما نربط ذلك بظروف التلقي، والذي نجد فيها أن الإنسان السوري يواجه أزمة داخلية أدت بمجموعها إلى ما يمكن أن يسمى (حرب أهلية)، أدت بدورها إلى دمار مدن بأكملها، وإلى هروب عدد كبير من السوريين إلى بلدان إما مجاورة أو بعيدة.
هذا الهروب لا يقتصر على الهروب المكاني، وإنما يتجاوزه أيضاً إلى هروب زماني، يشعر به الإنسان السوري المأزوم أنه يجد خلاصه بالعودة إلى حقبة زمنية أخرى تمثل بالنسبة له زمناً جميلاً يخرج فيه مما أصابه من انحدار وتدهور.
مع ما يصحب ذلك من الحنين أو «نستلجا» إلى الماضي حين كانت البساطة، والفطرة تغلب على تعامل الناس، وكان الناس يعيشون لكسب قوتهم اليومي دون كثير من الهموم والأحزان بناء على بساطة معاشهم، وبساطة حاجاتهم، وقرب مأخذها، وانحصار معارفهم، فهو قريب من الهروب الرومانسي إلى زمن البراءة والطفولة، ولكنه يضيف إليه السعي إلى استثمار هذه الخواص لتعزيز التأثير على المتلقي وتقديم رسالة ذات مضمون اجتماعي حديث.
إنه يشبه محاولة صياغة التاريخ السوري على مقاييس معاصرة، رغبة في التخلص من العقد المعاصرة بالهروب إلى الماضي، والتخلص من العقد القديمة بتقديمه على المعايير المعاصرة مع مراعاة الأجواء التاريخية.
هذا التقديم أو التعديل يسوغ المكونات القديمة، ويمنحها جواز عبور نحو المتلقي لتصبح جزءاً من ذاكرته، وتاريخه، يستحق أن يجد طريقه للعيش متجاوزاً كل ما يثار حولها من جدل، أو أصابها من تطور.