أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: في تاريخنا الإسلامي ميزتان: أولاهما المحاكمة، وأخراهما التوصيل.. أما المحاكمة فإن أمتنا العربية ناصعة الفكر بالفطرة، وليس ذلك عن تأثير البيئة الصحراوية كما كرر ذلك ابن خلدون في مقدمته، بل لفضل ذاتي عرقي إضافةً إلى البيئة.. وبعد الانتقال من البداوة والأمية القلمية والثقافة والعلمية أصبح العقل العربي محاكِماً؛ لأن تكوُّن العروبة من عشائرية إلى أمة كان بفضل الإسلام وتربيته؛ فاجتمع للعربي الذكاء والزكاء ما شاء الله من الزمن حتى تقاسم الأعاجم تركته من الرقعة، وأعادوه إلى البداوة والصحراء في الجملة، وإن بقيتْ عناصر عربية كثيرة انغمست في ترف الحضارة، ونشطت قلة قليلة من تلك العناصر للثقافة والعلوم النظرية والعلمية.. ومن القلةِ قلةٌ قليلة أيضاً تفرغت لجوانب من العلوم البحتة انطلاقاً من الفلسفة.. ومعنى المحاكمة الذي أريده: أن فطرة العقل العربي: الأخذُ بالميزة وطرح المجمل، وتيسير العلم الإنساني ونقده كما نرى في ريادة فلاسفتنا الأوائل منذ الكندي والفارابي.. إلى ابن رشد وابن باجَّه.. إلى عِلمِ الكلام المعارِض الذي تبلور عند أبي حامد الغزالي، والفخر الرازي، والإمام ابن تيمية.. وحاجتنا إلى المحاكمة اليوم أمَسُّ؛ لأن أمتنا لا تشتكي الغبن إلا في ثلاثٍ هي سِرُّ التفوق الدنيوي: الأولى الكشف الكوني في اليابسة، والبحار والسماء؛ لمعرفة مزيد من قوانين الكون الـمُعِينةِ بإذن الله على التعامل مع الطبيعة، وعلى الاختراع.. ونحن في هذه مفلسون إلا من اجترارٍ تراثي في بعض هذا المجال، ومحرومون من امتلاك وصنع أحدث الأدوات التي تزيدنا خبرة بالكون ـ وهي مهما عظمت ظاهر من الحياة الدنيا ـ كالمراكب الفضائية، والأقمار الصناعية.. والثانية الاختراع والصنع؛ فقد نصنع الحذاء والمِغْزَلَ والمخيطَ، والمسحاة.. ثم لا نحقق الاكتفـاء الذاتي.. أما الصاروخ والذرَّة فدونه خَرْط القتـاد (بل أَكْلُهُ).. حتى محاولة بعض بلادنا الإسلامية صنع الطائرة إنما هو صنع هياكل، أما الروح والأجهزة الدقيقة فلا سبيل إليها إلا بالاستيراد.. والثالثة المعارف النظرية الثَّرِيَّة في تراثنا فقهاً ولغةً وتاريخاً وآداباً ونظاماً ـ وهي موضوع المحاكمة ـ: فإنما ينقصنا منها ما كان زيادة علم وقف عندها عطاء العقل العربي الذي لم يكن نهائياً؛ فحاجتنا إلى الاسترفاد من العطاء الإنساني مشروط بجبلَّة العقل العربي في المحاكمة في أُطُرِ ثاث دوائر هي: الحق، والخير، والجمال؛ فنرفض العطاء الإنساني الجديد الذي يرفضه الحق والخير والجمال بعد استيعابنا لفلسفته المغلطائية.. ثم نَنْفُذُ من أغوارها بنقدٍ مشرق حاسم، وذلك هو المحاكمة؛ فبوجود وسائل الاتصال السريعة الهائلة، ويُسْرِ التجوال على المعمورة نصحح رحلة أمثال ابن بطوطة، وبعلمِ الأحياء (وثمارُه وقائع حسية مشهودة) نصحح أدبيات الجاحظ في كتابه الحيوان، وبالعلم الدقيق عن نشأة اللغة لدى الطفل نصحح كثيراً من ميتافيزيقيات اللغة مع احتفاظنا بالحقيقة الشرعية في أن نشأة اللغة ابتداءً تعليمٌ من الله.. أي توقيفية، ثم اتسعت أوجهُ تبلبلِ الألسن، وأوجه النمو لكل لسان.. وفي أدب الحداثة قيم جمالية فكرية ليست في تراثنا (إما بإطلاق، وإما بذلك الكمال المستجدِّ) كاتساع دائرة الموسيقى الخارجية التي هي أرحب من هياكل البحور الخليلية التي حصرت موسيقىً عربية تاريخية ولا تمنع من تجدُّد موسيقي لم تعرفه الألحان العربية المأثورة؛ لأن موسيقى الوجود أرحب.. وكتفجير الدلالة البلاغية التركيبية من إشارات المسَمَّى إذا قَصُرَتْ ـ أو سئمنا.. [قال أبوعبدالرحمن: كما في مذهب الطبيعيين التصويريين، وقد أفضتُ في شرح ذلك بكتبي الأدبية] - دلالة الاسم .. ثم نَحْذَرُ ريادة الطائفي والشعوبي والملِّيِّ في تلقٍّ حداثي مطلق يمزجنا بالريح، ويهدم الكيان المعتبر (ديناً وتاريخاً ورُقعةً وأمةً ولغة).. ونحن لا نساوم على ما كان قطعي الدلالة والثبوت في ديننا من عقوبة المجرم بعقوبة محدَّدة، وما كان قطعي الدلالة والثبوت من طرق الإثبات التي هي البيِّنة التي يقابلها يمين من أنكر، وما هو مطلوب يقيناً بضرورة الدين من تربية وقائية.. فإذا استجد في العلم الحديث وسائل من التخدير تُريح قتلَ مجرمٍ تحقَّق قتله: فإنا نرفض ذلك، ولا نقبل إلا ما شرعه الله من القتل حَدّْاً أو قصاصاً؛ لأننا لسنا أرحم ولا أحكم من ربنا في التيسير.. وإذا استجد في العلم الحديث طرق إثبات يقينية أو رجحانية ولا يترتب على استعمالها محذور شرعي أخذنا بها، وأضفنا إلى مأثورنا في طرق الإثبات الشرعي إذا كان الاعتراف يقتضي تعزيراً كالقتل.. أما ما كان مبنياً على الستر كالزنا الذي حكمه الرجم فلا نطلب أي طريق إثبات ـ ولو كان قطعياً ـ إلا ما شرعه الله من طرق الإثبات، بل نأخذ بطرق الإثبات الحديثة (إذا كانت يقينية) في تبرئة المتهم.. وسقوط عقوبة الرجم لا يعني سقوط عقوبتعزيرية إذا قويت التُّهمة.. وإذا وجدنا في علم النفس الحديث - وأكثره قائم على كيد صهيوني منذ فرويد ـ مُعِيناً على التربية والوقاية من الجريمة أخذنا به إذا تخلَّف من مانع شرعي.. وهكذا أدبياتنا نصححها بالعلم الحسي كما نصحح أدبيات القوم بعلمنا الشرعي اليقيني ومحاكمتنا العقلية؛ فكل معتقد لنا في الأفلاك أو الأحياء.. إلخ مبنيٌّ على إرث متوارث، أو نص شرعي محتمل الدلالة: نتنازل عنه إذا أصبح المعارِض العلمي يقينياً، ونعلم أن فهمنا للنص محتملِ الدلالة فَهْمٌ مرجوح؛ لأن براهين الحس من المرجِّحات دلالةً.. وميتافيزيقاهم عن بداية الإنسان على أنه همجي يعيش كالحيوانات، وأن التاريخ في صعود دائم لا تأرجحٍ، وأن هناك متحجرات من الأحياء يُقَدَّر عمرها بملايين السنين: نرفضها بالظني المتخيَّل عندهم، وهو محدودية المدة للآلة التي تُقَدِّر الأعمار، وبما أثبته العلم من تزوير في المتحجِّر عن الإنسان القرد، وبما أثبته العلم من قصور وسائل تقدير الأعمار عما فوق ثلاثة آلاف سنة.. ودعك من الملايين والبلايين!!.. وبالرجحاني من ديننا عن عمر الكون ـ ولله سبحانه أكوان قبل أن يخلق السموات والأرض والبشر ـ ، وباليقيني من ديننا عن أوَّل بشرٍ علَّمه الله وأوْحَى إليه (وهو آدم عليه السلام)، وباليقين التاريخي عن حضارات مادية سادت ثم بادت، وعن أمم همجية في بعض العصور والأمصار، وعن عصور ذهبيةٍ عُمِرَتْ بالرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وبالمصلحين من ورثتهم رضوان الله عليهم؛ إذن التاريخ تأرجح لا صعود، وستكون نهايته هبوطاً ألبتة؛ لأن الساعة لن تقوم إلا بعد فساد كل البشـر وهبوط التاريخ إلى الدَّرَك.. حتى الكشف الكوني الذي هو محاولات بشرية تُريد الوصول إلى العلم: فهو محكوم بثوابت الشرع القطعية؛ لأن خبر الحقيقة أصدق من خبر من يحاول اكتشافها بالتحرِّيات .. ومن الثوابت أن السماوات محكمة البناء والأبواب لا تُدخل إلا بإذن من الله لملائكته الكرام؛ وبهذا نعلم أن بلايين البلايين من النجوم والمجرات والشهب (مما عرف العلم الحديث شيئاً عنه، وما يحتمل أنه أعظم من ذلك مما لم يعرف عنه شيئاً): إنما هو من الأفلاك المكشوفة كالأرض، وكلها دون السماء الدنيا، وإلى لقاء قادم إنْ شاء الله تعالى، والله المُستعانُ.
** **
(محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، و عنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -