عطية محمد عطية عقيلان
عانى عنترة بن شداد، نبذ قومه له وتعاليهم عليه بسبب لون بشرته، ورغم ما أثبته من شجاعة وفروسية وقوة، إلا أن ذلك لم يغير كثيراً من نظرتهم له، بل عندما تقدم لمحبوبته عبلة، طلب والدها مهراً مبالغاً فيه وتعجيزياً، وهو ألف ناقة من نوق الملك النعمان، ومهما كانت نهاية قصة عنترة وعبلة، ولكنها تندرج تحت باب «الكيل بمكيالين» الذي يمارس في المجتمعات، سواء على المستوى الجماعي أو الفردي.
ولو تأملنا في حياتنا وما نمر به سواء من أحداث يومية أو ما تخزنه الذاكرة لما نمارسه في التعامل مع الناس والأحداث، لوجدنا في عقولنا العديد من المكاييل التي نصنعها ونوجدها حسب ما نريد، ونطبقها حسب الحالة وتغير عنصر أو أكثر فيها، فأحياناً يؤثر فيها مكانة الشخص أوجنسيته أو وضعه المادي أوالوظيفي أو جنسه.. إلخ، ويكون إصدار الأحكام وردات الفعل، حسب المكيال الذي نضعه فيه، والمتغير حسب العوامل المذكورة وغيرها، لذا تكون أحكامنا متناقضة ومتغيرة ولها أكثر من مكيال، وذلك نتيجة تطبيقنا ازدواجية المعايير، في قراراتنا الفردية، وكذلك نلمس تعدد المكاييل بوضوح في قرارات المنظمات الدولية أو في قرارات الأمم المتحدة، والتي تظهر مع كل أزمة أو قضية دولية.
فأصبحت المكاييل متشعبة وأكثر حرفية في وجودها والالتفاف عليها، فلا تستغرب هذه الازدواجية سواء في أفعالنا الشخصية أو على مستوى المجتمعات، وقد ترصدها بوضوح في المكاييل المستخدمة عند متابعة التحليل الرياضي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتصيبنا بالدهشة في طريقة ازدواجية المعايير التي تعطي أحكاماً مختلفة في نفس القضية، يؤثر فيها المصلحة والميول والهوى والقوة لمن ينفذها أو يطرحها، سواء كانت هذا القوة نتيجة المال أو الشهرة أو المكانة، ولن يتوقف الإنسان عن صناعة المكاييل التي تحقق أهدافه أو على أقل تقدير تخفف من لومه واتهامه بالتلون والتغيير والازدواجية، ودوماً سنوجد لأنفسنا المبررات والأسباب التي تجعل أحكامنا متغيرة حسب مصالحنا وميولنا، وتختصر أبيات الإمام الشافعي في القرن الثاني الهجري، ذلك:
وَعَينُ الرِضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ
وَلَكِنَّ عَينَ السُخطِ تُبدي المَساوِيا
وَلَستُ بِهَيّابٍ لِمَن لا يَهابُني
وَلَستُ أَرى لِلمَرءِ ما لا يَرى لِيا
فَإِن تَدنُ مِنّي تَدنُ مِنكَ مَوَدَّتي
وَإِن تَنأَ عَنّي تَلقَني عَنكَ نائِيا
لذا سيكون في حياتنا معايير مختلفة دوماً ومكاييل نستدعيها حسب الطلب، تحركها مصالحنا الشخصية وعواطفنا وميولنا ورضانا ,أحياناً حالتنا المزاجية والصحية والمالية وغيرها، وسنبني مواقفنا وأحكامنا وردات أفعالنا، بما تعكسه هذه المتغيرات والمكاييل، والتي غالباً تخضع لما نكنه من عاطفة وحب ومزاج جيد ومصلحة، وكما يقال في المثل الشعبي « حبيبك تبلعله الزلط وعدوك تتمناله الغلط»، وهذه القاعدة والمكاييل ستجدها في كافة مناحي الحياة ، سواء أفراداً أو مجتمعاً أو منظمات دولية، وحتى في قرارات زوجتك عليك» وهذه من باب الدعابة».
وغالبنا دوماً سندعي العدالة والإنصاف والثبات في تعاملنا مع الآخرين، ولكننا جميعاً انعكاس للمجتمع وطرق صناعته وتعامله وثباته في المكاييل، إلا أن بعضنا يجيد «فن صناعة المكاييل وتغيير الأقنعة» بحرفية وقدرة تمثيلية، ويبدع فيها ولا يمكن اكتشافه إلا متأخراً.
خاتمة: يقول مارك توين» ليس من العدل أن تطلب من الآخرين، ما لست مستعداً لفعله» وهي تفعيل لقاعدة «عامل الناس كما تحب أن يعاملوك به»، بعيداً عن الصفات الذميمة من النفاق والرياء وصناعة أكثر من وجه أو مكيال في حياتك، وليكن أضعف الإيمان تقبل الآخرين بوجوههم المتعددة أسوة بعدد الأوجه والأقنعة التي تصنعها وتتعامل بها معهم في حياتك.