عبدالوهاب الفايز
حالة الإغلاق الدولي التي صاحبت بداية أزمة كورونا جعلت العالم يقف على أول الأخطار على الأمن الغذائي، فالتأثيرات على سلسلة الإمداد العالمية جعلت الحكومات تتعامل بحالة طوارئ ساعدت على احتواء المشكلة والتقليل من آثارها.
هذا الوضع الإيجابي تحقق لأنه العالم في حالة سلام وتعاون، لكن بعد الانتقال إلى حالة الحرب والسباق على تغليب المصالح الخاصة على العامة، وإدخال ورقة الغذاء كإحدى أدوات الصراع الدولي بين القوى الكبرى بدأت الدول ترى مخاطر الظروف الجيوسياسية على منظومة الغذاء الوطنية داخلها، وبدأت تجدد النقاش والحوار حول أولويات الأمن الغذائي والمخاطر المترتبة على ظروف العالم ومشاكله التي لن تنتهي.
لدينا في المملكة.. إذا تأملنا الأمور الحساسة لأمننا الغذائي، سوف نجد أنها محدودة الأثر ويمكن استيعابها والعمل على تحييدها، فتجربتنا مع الزراعة في المملكة في العقود الخمسة الماضية جعلتنا نتعلم الكثير من الدروس بالطريقة الصعبة المضنية، وهذا المسار الإيجابي للتعلم هو الذي يجعل الأجهزة الحكومية، ومنشآت القطاع الخاص والغرف التجارية تبادر بشكل سريع إلى الحوار والنقاش ثم التوصية بالآليات والإجراءات التي تخدم المصلحة العامة. وفي تجربتنا في الصحافة والإعلام، في الثلاثين عاما الماضية، وجدنا الحكومة تبادر سريعا إلى تبني ما يُطرح إذا اتضح أنه يحمل ملامح المصلحة العامة ويخدم الناس، ولدي الأمثلة الكثيرة التي توضح هذه الروح الإيجابية لولي الأمر الذي يسير على تحقيق مبادئ الحكم الصالح لكل ما ينفع الناس.
طبعا الأمن الغذائي لا يواجه مخاطر الحروب فقط، بل العالم يواجه تحديات التغيير المناخي وارتفاع درجات الحرارة وندرة الموارد المائية. لذا، الأمر الإيجابي لبلادنا نجده في استشعار الحكومة المبكر لمخاطر الظروف العالمية على الأمن الغذائي وكانت أول المبادرات قبل عشر سنوات عندما تقرر العمل على هذا الملف الاستراتيجي الحساس والمهم للأمن الوطني والاستقرار الاجتماعي، فكان مشروع الاستثمارات السعودية الخارجية وهو التوجه الذي يتم تهذيبه وتطويره ورفع مساهماته المحليه. والآن وفي ظل ظروف أزمة الغذاء العالمية الراهنة، بلادنا تتحرك ضمن إطار استراتيجية وطنية لتحقيق الأمن الغذائي على المدى البعيد، وأيضا لديها لجنة تم إنشاؤها خصيصاً للأمن الغذائي، لتراقب عن كثب وفرة إمدادات الغذاء والسلع الغذائية التموينية والزراعية والحيوانية بالأسواق المحلية.
هذا الحراك الإيجابي الاستباقي للاجهزة الحكومية المعنية يقابله تحرك القطاع الخاص الشريك في تحقيق الأمن الغذائي، والمستثمرين بهذا القطاع (الذين تعلموا الدرس القاسي) لديهم الأولويات التي تتطلب الجهود المشتركة للتعامل معها، بالذات الأعلاف. فاستقرار منظومة الأمن الغذائي في المملكة يرتكز على عدة أسس، من أبرزها قطاع الأعلاف المتكاملة التي تعد أحد العناصر الأساسية في استقرار الأسواق، باعتبارها مدخلا للإنتاج لقطاعات: الماشية (اللحوم)، الدواجن، مشاريع الألبان، والبيض وغيرها. والتحدي الكبير الآن؛ كيف يستطيع قطاع الأعلاف مقابلة الطلب المتوقع؟ وكيف يسهم بشكل إيجابي في استقرار الأسعار؟ وكيف يتجاوز مشكلة سلسلة الإمدادات العالمية؟ هذا لوحده يحتاج حوارا صريحا مباشرا بين القطاع الزراعي والأجهزة الحكومية فالظروف الحالية تضعه في أولويات ملف الأمن الغذائي.
الآن نحتاج دعم هذا القطاع المهم لمواجهة التحديات اللوجستية والأساسية التي تؤثر عليه. من خلال معلومات اللجنة الوطنية لمصنعي الأعلاف في اتحاد الغرف السعوديه، يوجد حاليا في المملكة نحو 65 مصنعا للأعلاف المتكاملة تمتلك طاقة إنتاجية تصل إلى 11 مليون طن، في حين يقدر حجم الطلب المحلي الكلي على جميع أصناف الأعلاف بين 20 و22 مليون طن سنويا، نصيب أعلاف الماشية كالشعير والأعلاف الخضراء نحو 10 ملايين طن، ونصيب الأعلاف المتكاملة نحو 3.5 مليون طن.
هذا يعني أن لدينا طاقة فائضة ناتجة عن أحجام المربين عن استخدام الأعلاف المتكاملة. ولعل هذا فرصة للنظر بتوجيه إعانات الشعير السابقة للأعلاف المركبة، من خلال إعادة الدعم الحكومي ولو لفترة محددة لتشجيع المربين على هذا النوع من الأعلاف. وهذا ستكون فائدته متعدية إلى قطاعات كثيرة سواء مربي الماشية، أو مشاريع الدواجن والبيض، وغيرها من الأغذية التي تدخل الأعلاف في مدخلاتها الأساسية.
بالإضافة إلى مشكلة الأعلاف، قطاع الزراعة لديه همومه وتحدياته الأخرى الراهنة التي تحتاج العناية حتى نستكمل جهود ترتيب أوضاع الجبهة الداخلية. اللجنة الوطنية للزراعة وصيد الأسماك في اتحاد الغرف التجارية السعودية في مارس الماضي بحثت (التحديات التي تواجه القطاع داخليا خصوصا مشاكل العمالة الزراعية، حيث يقل الإقبال من السعوديين خصوصا في جوانب الإنتاج الزراعي حيث إنها مهن شاقة وفي مناطق نائية بعيدة عن المدن)، وأثر ذلك على الأعمال الزراعية بالذات (ارتفاع التكاليف للعمالة الأجنبية خصوصا بعد زيادة المقابل المالي وأثر ذلك على الإنتاج الزراعي المحلي وزيادة الأسعار على المستهلكين).
اللجنة قدمت عددا من الحلول التي رأت ضرورتها لاستيعاب مخاطر المرحلة الراهنة مثل (إلغاء المقابل المالي، وتجميد التوطين في المهن الزراعية التي لا يمكن توطينها بالسعوديين في العديد من المهن الزراعية). أيضا قدمت عدداً من التوصيات للأجهزة الحكومية السيادية والتنفيذية نتمنى دراستها للأخذ بما يحقق المصلحة العليا لبلادنا، التي وردت في اجتماع اللجنة الماضي.
بقي أن نقول المهم: هذه التحديات الجيوسياسية والفنية المحلية واعتبارات الأمن الغذائي الوطني، كلها تفرض ضرورة التوجه القوي لتطوير بنية الزراعة المحلية وحل مشاكلها الهيكلية بالذات التسويق الزراعي، والاستفادة من التطورات التقنية والعلمية والتسويقية التي أحدثت نقلات نوعية في الإنتاج والتسويق الزراعي.