د.شريف بن محمد الأتربي
تلقيت دعوة كريمة لعشاء لذيذ دسم، تبادلنا فيه الكلمات والذكريات والمعارف والمعلومات، وتناولنا جميع الأدوية والمشروبات التي تساعد على هضم كل هذه الدهنيات، ورغم ذلك لم تفلح في تفريغ أي حيز في المعدة لتنال حقها من الهواء، وهنا انتابتني المخاوف والهواجس، ففي كل مرة أتناول فيها مثل هذا العشاء تنتابني الكوابيس والمفزعات حتى بت أخاف النوم في هذه الليلة من هذا اليوم.
توكلت على الله وتوضأت وصليت ركعتين، ومن الأذكار قدر ما قدرت قرأت، وسلمت روحي ونفسي لخالقها متمنياً نوماً هانئاً، ومع دخولي مرحلة الهجوع (الاستغراق في النوم بشكل تام) سمعت صوتاً ينادي من بعيد، فصحت ملبياً: سم سيدي. قال: لقد سلمناك حقيبة التعليم. أنت وزيرٌ للتعليم. قلت سيدي: هل لي الاختيار؟ قال: إنه أمر ليس منه فرار. قلت: سمعاً وطاعة سيدي، أمرك أمر، وما لنا إلا السمع والطاعة.
انصرف الصوت، وبقيت الحقيبة مليئة بالأوراق، ثقيلة بالأعباء، متخمة كأنها تناولت معنا العشاء، حملتها بكلتا يديّ، وفي سيارتي أرخيت يدي عن مقبضها، وفي المقعد الخلفي وضعتها، وقدت سيارتي إلى الوزارة، حيث أوصلتها.
دلفت من باب الوزير، فإذا الجميع يتهامسون: هذا هو الوزير، هذا صاحب الحمل الثقيل، هذا المسؤول عن اليوم والغد والمستقبل، هذا المسؤول عن أبنائنا؛ تربيةً وتعليماً. كلما اقتربت من مكتب الوزير - حيث كنت خلف العلامات الإرشادية أسير- ازداد وزن الحقيبة، وكأنها تحاول أن تهرب من بين يدي، أنقلها من يدي اليمنى ليدي اليسرى علّها لي تلين وترضى بي رفيقاً وصديقاً؛ حتى تنتهي المهمة، وأنال رضا القادة وأبناء الوطن وبناته في مشكلة لا تهم فئة من الناس، ولكنها تهم كل الوطن.
وأخيراً من الباب دلفت، وعلى المكتب الكبير جلست، وأمامي على الفور رفيقة الرحلة الجديدة، حقيبتي الثقيلة، نقر الباب، قلت تفضل، قال أنا مدير مكتبك، وحافظ سرك، وصوتك المسموع في وسط كل هذه الجموع. قلت أرحب وتفضل، ومما عندك من العلم تقّول، قال: معاليك جئت في وقت عصيب، وجو رهيب، مرحلة فارقة في تاريخ التعليم وفعالياته، وتأثير مخرجاته على الوطن ومنجزاته.
قلت له: هذا كله مكتوب، أم في رأسك مصبوب؟ قال: معاليك أسأل حقيبتك فهي لديها من العلم ما يكفي، ومن الأوراق ما تبيح ولا تخفي. مددت يدي إليها طائعاً، وعلى زر القفل ضغطت، فإذا بصوت كأنه انفجار، أوراق تتطاير من الفرح، وأوراق تصرخ من الحزن، وتراب قد عمَّ المكان من ملفات مكتوبة مر عليها في الحقيبة أزمان وأزمان.
أمسكت بأول ملف، فإذا به معنون بنقل المعلمين، قلت يا ويلي أنا المسكين، أبهذا الملف أبدأ وقد مر عليه عشرات السنين، حاولت أن أضعه بعيداً، لكنه بيدي التصق، وإذا به يصيح: ما بالك تتركني، وإلى وزير آخر تُصدّرُني، تكفى بالله عليك خلصني، لا تنظر إلي ومن ثم تُأرشفني، فقد طال بي العمر وأخاف أن أموت ممزقاً وقد بعثرت أوراقي وكأنها أحشائي، ويأتي من بعدي أبنائي وأحفادي، وأكون لهم وصمة عار. اقتنعت بكلامه، وحجته وبيانه، وقلت له لك عندي حل: وجدت صفحته تهللت ودموعه توقفت. قلت يا هذا: مشكلتك في القوانين، وضرورة خروج المعلم المسكين، إلى دار غير داره، وأهل غير أهله، كأنه قد دفن، وفي القبور قد لُحد. أسمع يا هذا: أمرنا بأن يكون تعيين المعلم حسب اختياره، وأن يسد النقص بالتعيين، وما لا يستقيم بالتعيين، يستقيم بالمتعاقدين، وعليك بالتقنية، وبالتعليم الإلكتروني، وولده عن بعد، وإخوانه الهجين، واترك عنك معلمنا المسكين، فيكفي ما يحمله من أعباء ولديه من التزامات. سحبت يدي من الملف فإذا به قد هدأ، وتركها وخفت، وفي سنة من النوم قد بدأ، منتظراً التنفيذ، وتقارير المنفذين.
أردت أن آخذ راحة، ومن هذا العبء أنال استراحة، فإذا بالحقيبة تهتز، وقد علت الأصوات داخلها، الكل يصيح أنا أولاً. أنا لي الأولوية. سألت جالسي بأيهم أبدأ؟ قال: عليك بالنظام التعليمي، فقد تغيّرت أنظمتنا عدة مرات، كأنها رجل متعدد الزوجات، لا على نظام الثانوي استمررنا، ولا بالمقررات اكتفينا، حتى النظام الفصلي أقررنا، ومن ثم لغينا، وأخيراً بنظام المسارات أتينا، ويا ليته يكون الأخير لدينا. قلت لمَ كل هذا يا رجل؟ أما يكفي التطوير والتحديث؟ أنغير من أجل التغيير؟ أم من أجل الفائدة والتفضيل؟ قال: معاليك كلها أنظمة رائعة، ولكن رؤية المسؤولين، ورغبة التربويين في التحسين، قلت يا هذا، قال سم معاليك: قلت يطبق نظام المسارات لمدة 7 سنوات، ولا يغير بأي نظام آخر، وخلال هذه المدة أريد تقريراً شهرياً عن كل الفعاليات، والاختبارات والتقييمات، من الصف الأول بالثانويات، حتى سنة التخرّج من الجامعات. أريد التقرير مفصلاً، ورأي الطلاب مقدماً، وشاركني رأي الآباء والأمهات، وجهز لي لجنة دائمة للبت في التغييرات العاجلة، ولا تتوانى عن اتخاذ قرار الإعفاء لأي عضو يعرقل العمل، ولا يرضى برأي الجماعة، ويُنظر علينا بما لديه من علم مهما كان من أين استقاه، وبأي طريقة علينا ألقاه.
وقبل أن أنهي حديثي مع ضيفي وجليسي، خرج ملف تقييم المخرجات، وقياس العملية التعليمية من المهارات والمعلومات، وكيف عن الركب العالمي تأخرنا، ولماذا لا ينافس طلابنا طلابًا آخرين لا توفر لهم الإمكانات مثلما يوفره قادتنا للتعليم منذ البدايات. قلت يا هذا، عليك باستخدام الذكاء الاصطناعي لمراقبة تقدم الطلاب، ومنع الغش في الاختبارات، وتفريد التعليم حسب مختلف المستويات، ابنِ لي نظاماً للتعليم لا يكون للحفظ صديقاً، ولا للتحايل صديقاً، دع الطلاب يتعلمون كما يريدون، وقّيمهم حسب مستوياتهم، ولا تتوانى عن اتخاذ القرار ضد كل من يتقاعس عن العمل، ويتهاون في دعم الطلاب أبناء الوطن ومستقبله وقائدي رؤيتها. ودع عنك هذه الاختبارات الأجنبية، وضع لنفسك مستويات محلية، لبرنامج تنمية القدرات البشرية ملبية. ولا أريد منك نتائجًا اليوم، لكن بعد عقد وعامين.
مددت يدي لأغلق الحقيبة، ليتحدى يداي ملف المركزية، وبلا أي تفكير اتخذت قرارًا بتحرير إدارات التعليم، وأن يكون كل مدير هو في مركزه وزير، وشكلت اللجنة المركزية للتعليم، برئاسة وزير شرفي، دوره نقل طموحات وتوجيهات القادة، والتأكد من المخرجات، واتفاقها مع رغبتنا في نسيان الذكريات والتخطيط لما هو آت.
وقبل أن يخرج ملف جديد، أغلقت حقيبتي، وكتبت استقالتي وقلت لسيدي: لقد نفذت ما أردت، وبإذن الله أتمنى أن أكون أمام الله ثم أمامكم ما قصرت، الآن دور إدارات التعليم للتنفيذ والتعزيز، ولباقي المشكلات -بإذن الله- حل، والمهم البداية القوية، والنظرة المستقبلية.
يرن جرس المنبه، ليوقظني، ومعه صوت المؤذن يذكِّرني أنها صلاة الفجر، أنهض من مكتبي، عفواً من سريري، أبحث عن جليسي، لاكتشف أني في غرفتي الصغيرة وأن معاليك كانت حلمًا، وحلولي كلها كانت وهمًا، أتوضأ واستغفر ربي، وفي قرارة نفسي أن أعتذر عن أي عشاء قادم، حتى لا أقع في المشكلات، فلا أعرف أية حقيبة وزارية أخرى سأكلّف، وفي مشاكلها كيف سأتصرف.
** **
- مستشار تدريب وتعليم إلكتروني