د.عبدالله بن موسى الطاير
يقول صامويل هانتنغتون في كتابه «النظام السياسي لمجتمعات متغيرة» إن الناس «قد يحصلون على النظام بدون الحرية، ولكنهم لن يحصلوا على الحرية بدون النظام، إذ يجب أن تكون السلطة موجودة قبل أن يصار إلى تحديدها»، والسلطة، والكلام لهانتنغتون، هي التي «يندر وجودها» في بعض الدول المضطربة، حيث «يكون الحكم تحت رحمة مفكرين مستلبين، وضباط عنيدين، وطلاب مشاغبين».
وبتنزيل هذا التوصيف على البلدان التي أصيبت بمس الربيع العربي وتداعياته اللاحقة سنجد أن الناس يبحثون عن الحرية قبل قيام السلطة، ويقعون في فخ المفكرين والأكاديميين والنخب الذين تريد تفصيل السلطة وفقا لما وقر في عقولهم من نظريات الديموقراطية، وبذريعة عدم تكرار تجارب الاستبداد السابقة، ولكنهم في واقع الأمر يجعلون العربة قبل الحصان، إذ لا يمكن البدء بتقييد السلطة قبل وجودها. وفي الوقت الذي يغرق المفكرون والضباط والنخب المجتمعات في الفوضى بهدف تفصيل سلطة توافق أمزجتهم ومصالحهم، يشتغل الشباب والدهماء بالشارع ليفاقموا من إمكانية تشكل السلطة.
السلطة مفهوم وتطبيق يختلف من مجتمع وثقافة إلى أخرى، وبكل تأكيد فإن الوسيط الأمريكي الذي يقود مفاوضات في واحدة من البلدان العربية المتعثرة لن يكون مشغولا بتشكيل السلطة أكثر من انشغاله بتقييدها، فالأمريكي مجبول على تقليص صلاحيات السلطة، بل إن في الولايات المتحدة الأمريكية مليشيات مسلحة وجماعات متطرفة تحارب السلطة المركزية وتعمل ضدها، بينما تؤمن غالبية الشعوب العربية التي تنهشها الفوضى أن من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية، وأن طاعة ولي الأمر واجبة، وأن شر البلاد بلاد لا أمير بها.
مشكلة المفكرين «المستلبين» أنهم كمن يربي دببة قطبية في وسط صحراء ملتهبة الرمال، ولذلك فهم يحفظون عن ظهر قلب نظريات وجدليات وفرضيات أرسطو، جون لوك، جان جاك روسو، كارل ماركس، ويورجن هابرماس، ويحلمون بسلطة تحقق اشتراطات مثالية مستوردة على حساب شعوب تعاني من غيابها على النحو الذي اعتادوا عليه.
لا ريب أن الديموقراطية نظام حقق نجاحا في بلدان عديدة حول العالم، ولكنه جاء نتيجة لتفاعلات اجتماعية وسياسية تكاملت وفق ظروف زمانية ومكانية ممتدة، وانطلق من قواعد فكرية وثقافية واقتصادية وتعليمية مهيأة لهذا النوع من الحكم، ولكن فرض هذا النظام على العالم هو عين الاستبداد الذي تحرمه الديموقراطية. هناك بدائل؛ فالسلطوية ليست سيئة، ونحن نشهد كيف نهضت بالصين من قعر الفقر والتخلف إلى الريادة الاقتصادية، وصنعت بنظام حكمها النموذج الصناعي والاقتصادي الأكثر جاذبية في العالم اليوم.
كثير من المفكرين العرب المهتمين بالسياسة والتنظير السياسي يستعرضون بفخر تجارب ومقولات الليبراليين الديموقراطيين، وهذا حق لا مشاحة فيه، ولكن أليس من العدل أن يبحثوا أكثر في مقومات السلطة في الإسلام واستقراء تجارب الحكم الرشيد في التاريخ الإسلامي، وفي مدونات المسلمين، ومرجعياتهم المقدسة من قرآن وسنة. بدلاً من إعادة تدوير مقولات جون لوك أو جان جاك روسو يمكن لهم أن يقدموا نظرية في الحكم بين السلطوية المطلقة والليبرالية الديموقراطية.
الإسلام لم يأت بالكثير في مسألة الحكم، وهو لم يمنع أية وسيلة تحقق الحكم الرشيد على اعتبار «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، ولكنه وضع ثلاث ركائز للحكم الرشيد هي العدل والمساواة والشورى.
وكما تحولت واشنطن ولندن وبرلين وباريس إلى مراكز بحث وترويج لليبرالية الديموقراطية، لماذا لا تتحول العواصم العربية أو بعضها إلى مراكز بحث تقدم بديلا يقوم على أساس أن الفرد مسؤول أمام الله، وفي عنقه بيعة، ويحرم عليه الخروج على الحاكم، وفي الوقت نفسه يحكم بعدل ومساواة وشورى.
سنبقى هدفا للدراسات والسياسات وتقارير جماعات حقوق الإنسان، والمنظمات والدول التي تدفع بالليبرالية الديموقراطية وتفرضها، ولن يلتفت إلى ظروفنا وتجاربنا أحد طالما لم نقدم بديلا للحكم ينطلق من تجاربنا وبيئاتنا وظروفنا ونستطيع تسويقه ووضعه ضمن البدائل المطروحة للحكم الرشيد. أعتقد جازما أن تجربة الحكم في المملكة التي توشك أن تطوي قرنا من الزمان منذ توحيد المملكة فيها الكثير مما يمكن تبادله مع العالم وبخاصة الدول الغارقة في الفوضى بانتظار تقليم أظافر سلطة لم تولد بعد، واستنبات حريات في دول لا سلطة فيها.