أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: حديث اليوم عن مقطعٍ من دالية أبي العلاء المعري، وهي ستون بيتاً، وأول دَفْعةٍ منها قوله:
أرى العنقاءَ تَكْبرُ أن تُصادا
وما نهنهتُ في طلبٍ ولكنْ
فلا تَلُمِ السوابقَ والمطايا
لعَلَّك أن تَشُنَّ بها مَغاراً
مُقارعةً أَحِجَّتُها العواليْ
نلوم على تبلُّدِها قلوباً
إذا مالنارُ لم تَطعمْ ضِراماً
فعانِدْ مَنْ تُطيق له عِنادا
هي الأيام لا تُعطي قيادا
إذا غرضٌ من الأغراض حادا
فتُنْجحَ أو تُجَشِّمها طِرادا
مُجنِّبةً نواظرُهاالرقادا
تكابد من معيشتها جهادا
فأوشِكْ أن تمرَّ بها رمادا
قال أبو عبدالرحمن: قبل لم شعث هذه المعاني، وبيان مدى ترابطها أحب التمهيد بأمرين:
أولهما: أنني منذ عام 1398هـ تقريباً انتهيتُ إلى ضرورة فكرية في دراساتي الأدبية، وهي أن المنهج الذي لا ينطبق على النص الفنيِّ غيرُه - بعد تخليص الأدب من أمشاج ليست من صميم فنيته -.. انظر تصنيف الأدب بكتابي (العقل الأدبي) 1/ 106-134. هو منهج النقد الجمالي التفسيري التعاوني؛ فمعيار الأدب القيمة الجمالية لا غير، وتصوُّره تفسيراً ضرورة للمرسِل؛ لأن التصوُّر يسبق الحكم، وضرورة للمتلقِّي؛ لتمنحه حريته في الإحساس الجماليِّ، والتعاون ضرورة؛ من أجل كمال التصور، ومن أجل تصنيف الجمال الفِئوي لأذواق الناس باستنباط عناصره من الذات ومن الموضوع.. ويعني التعاونُ استقصاءَ ما كُتب عن النص قراءة، وليس من الضروري إظهارُ هذا الاستقصاء في الدراسة إلا وَفْق ما هو ضروري.. ويتبع ذلك الإفادة من كل الحقول العلمية المساعدة.
وثانيهما: أن أبو العلاء (الضم على الحكاية) مثلُ فحولٍ من الشعراء كأبي تمام والمتنبي يَرِدُ الأَلَقُ الموسيقيُّ عندهم لمحةً؛ لأن شعرهم نثري، والسرُّ في ذلك أنهم لا يُغنُّون بشعرهم، ولا يُظْهر موسيقى الشعر إلا الغناء.. ومنهج المبصرين منهم ارتسام رتابة الوزن في ذاكرتهم من كثرة قراءتهم أو حفظهم؛ فيكون عندهم إحساس الأذن بسلامة الوزن في الجملة، ويحتاجون وفق خبرتهم العروضية فيما يعرض لهم من زحافات وعلل إلى تقطيع عروضي بصمت وتأمل فكري، ومن تدنى قطع تقطيعاً بصرياً.. وهذا المنهج يُفيد في ضبط الوزن، ولا يحقق ضبط اللحن بمسافته الموسيقية، وترتيبه الموسيقي، وقد قلت كثيراً: إن اللحن لا يقبل إلا وزناً واحداً، وأن الوزن الواحد يقبل أكثر من لحن؛ إذن للوزن خصوصية معاناة لا يحققها منهج ذوي التقطيع العروضي. وهذه القصيدة من غرر شعر أبي العلاء من أجل أبيات فيها؛ لهذا أتعامل معها بنفس ذي أناة، مكتفياً اليوم بما سيرد من أبيات، مؤجلاً ثقافة النص إلى الانتهاء من تحليل القصيدة؛ فأول بيت - وهو المطلع - إيحاء بروح الشاعر في التحدِّي؛ فكأنه يقول: أَبَيْتُ أن أقع في مصيدة، وعندي عناد؛ فبان من الصيد دافعُ العناد.. ولما اشترط للعناد الاستطاعة كان بذلك مُمَهِّداً لجِدِّيَّة سلوكه في الإدلاج والسباق من أجل الغاية، وإظهار عذره فيما خرج عن طاقته مما لم يبلغه جهده.. هذا معنى الأبيات الثلاثة الأولى، والثالث عن الخيل والمطايا رمز لسلوك الشاعر نفسه.. ولم يُحكم الربط في انتقاله من البيت الثالث إلى البيت الرابع إلا بإلماحه الذي يَستنبطه المتلقِّي، وهو أن العجز عن غرض ما لا يمنع من إطلاق السوابق والمطايا؛ فقد يتحقق لك نجاح في الإغارة والطراد.. وفي البيت الخامس وَصَفَ سلوك السوابق في عزيمتها بأن عظام حواجبها تقارع أعالي الرماح - وهي أسنتها الحادة -، وبمقابل ذلك فهي تطرد النوم عن جفونها؛ ولهذا كان رفع الأحجَّة أبلغ وإن وجدت ضرورةُ تسكين الياء في (العوالي) المنصوبة.. وفي البيت السادس رمز بنون المتكلمين (نلوم) إلى الآخر، وهو مجتمع أبي العلاء.. وجعل نفسه في موضع السوابق التي تكابد تحصيل العيش بالجهاد، وحقها أن تُشكر لا أن تُلام.. وفي البيت السابع ضل عدد من شُرَّاح شعر أبي العلاء كما سيأتي إن شاء الله عن ثقافة النص، والمعنى السليم عندي: أن قلوب هذه السوابق تحتاج إلى تشجيع يكون لها وقوداً؛ كي لا تخمد فتكون رماداً.وهذا تشبيه للقلوب وعزيمتها بالنار في اشتعالها أو خمودها.. وبعد هذه التوطئة التي منها عُلم أن الأبيات رمز للشاعر نفسه، وبعد ذكره من يلوم قلوب السوابق في جهادها انتقل إلى هجاء مجتمعه بهذا النَّفس:
فَظُنَّ بسائر الإخوان شرّاً
فلو خبرتهم الجوزاءُ خُبْري
تجنبتُ الأنام فما أُواخي
ولا تأمنْ على سرٍّ فؤادا
لما طلعتْ مخافة أن تكادا
وزدتُ على العدوِّ فما أُعادا
ففي البيت الأول زاد في هجائه لمجتمعه أنهم غير مأمونين على سرٍّ بينما الدافع للهجاء لومهم لجهاد السابق؛ فعسى أن نجد مستقبلاً سرَّ هذه الزيادة، وقد يكون هذا البيت من عناصر التفسير لكونه رهين المَحْبَسين.
وأعمى المعرة لم ير الجوزاء قط، ولكنه مُلِمٌّ بها ثقافة؛ فالبيت الثاني أول لمحة جمالية في القصيدة؛ لأنه كشعراء التفعيلة وظَّف الرمز، وتوسع به في الدلالة؛ ذلك أن الجوزاء في خبرة العارفين بالنجوم رؤية ودراسة يعلمون أنها برج ينزل فيه عطارد، وهو رمز للسلام، والجوزاء تسمى التوأمين رمز التآخي والتعانق.. هكذا فهمت من تحشية الدكتور فخر الدين قباوة على سقط الزند، وخبرتي في النجوم قاصرة، ولا أحب التكلف بالنظر في كتب الأنواء وعلم الفلك (وعندي رصيد منها لا بأس به)، ويكفي أن هذا الرمز للوداعة والسلام ثقافة خاصة وظفها أبو العلاء رمزاً للتنافر والتعادي في مجتمعه؛ لأن الجوزاء لو خبرت طبائعهم لاحتفظت برمزها عن الوداعة والتآخي والسلام فلم تظهر عليهم؛ خوفاً على نفسها أن تُسلب هذه النعمة من جراء كيد ذلك المجتمع.. وفي البيت الثاني فَصَّل تفسيرَ عُزلته بامتناعه عن مصادقة أحد وبترفُّعه على الأعادي؛ فلا صديق له ولا عدو.. هكذا يدعي، وله خاصته من الأصدقاء، وأعاديه كُثر.
قال أبو عبدالرحمن: الطبيعة لا تعطيك أكثر مما فيها؛ فهذا خلاصة ما منحنا إياه مدخل قصيدة أبي العلاء من تحليل، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
** **
(محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -