د. إبراهيم بن محمد الشتوي
وهو ما يدفع إلى النظر في العلاقة بين النص الأصلي والنص الجديد مرة أخرى، فبالإضافة إلى أنه نسخة أخرى تحمل في طياتها اختلافات عن النسخة الأولى، فإنه يمكن أن يكون نوعاً من القراءة والتأويل، أو التفسير للنص الأصلي، فهو انعكاس لفهم المترجم وما استقر في نفسه منه، هذا الفهم الذي يتأثر بثقافة المترجم.
ويتجلى هذا عندما تتعدد الترجمات للنص الواحد، ونجد بينها اختلافاً يقل أو يكثر، وذلك بسبب فهم المترجم للنص، وصلته به التي قد تكون خاصة وثيقة أو عامة عابرة، وصلة المترجم بحقل النص المترجم الذي قد يكون ضليعاً به وقد يكون ذا ثقافة عامة، مما ينعكس على تعاطيه للنص بعد ذلك، أو ربما يعود إلى ظهور عدد من الدراسات النقدية والشروحات على النص الأصلي في لغته الأولى ساهمت في تغيير النظرة إليه ما ينعكس بعد ذلك على ترجمته أيضاً. وهي كلها ظروف تعزز الفارق بين النصين، وتكسب كل ترجمة مشروعية الوجود والاعتبار بعيداً عن ثنائية الخطأ والصواب التي يعتمدها بعض الدارسين.
بل إن هذه التأثيرات للفهم، والتلقي لتظهر على الترجمة حين يكون النص الجديد (المترجم) منقولاً عن لغة وسيطة، بمعنى لو أن النص الأصلي ألماني، والترجمة منقولة عن الترجمة الفرنسية، فإن هذا يعني أن النص أو الكتاب قد مر بصياغة وفق الفهم الفرنسي، وانتقل بعدها إلى اللغة الثالثة، فالنسخة الجديدة الثالثة منقولة عن النسخة الفرنسية بكل ما تحويه هذه النسخة من ثقافة فرنسية.
ويظهر هذا الأثر لتدخل أكثر من لغة على النص حين تتم العودة إلى النسخة الأولى الأصلية للنص، ويتم ترجمة الأثر إلى اللغة الثالثة مباشرة منها، ثم نقارن بين النسختين للنص الأصلي؛ الأولى التي ترجمت عن لغة وسيطة والثانية التي ترجمت عن اللغة الأصلية، نجد الفارق كبيراً بسبب أثر اللغة الوسيطة في تحوير المعاني الأصلية، وفهمها على القارئ الذي أيضاً قام بتحويرها مرة أخرى بناء على فهمه لها.
لكن هذا التحول للنص من لغته الأصلية إلى اللغة الجديدة، لا يقتصر على إكساب النص صورة أخرى غير الصورة التي كان عليها من قبل، وإنما يتجاوزه إلى البيئة الجديدة (اللغة) التي ظهر بها، فاعتماده على مواضعات اللغة المستعارة في التعبير، واستخدام وسائل التواصل، والتوصيل فيها يكسب النص أدوات جديدة يتمكن من خلالها أن يؤسس فضاءً تأثيرياً جديداً، هذا الفضاء التأثيري يختلف عن فضائه الأصلي سواء باللغة أو بالقراء الذين لهم ثقافتهم الخاصة التي ينطلقون منها، ويتأثرون بها، وهو ما يكسبه أصالة في اللغة التي ينتقل إليها، ويعطيه قدراً من التأسيس فيها، إذ يمكن النص من استخدام الخلفيات الثقافية للمستعملين الجدد، ولأدواتهم المعرفية في خلق مساحة مقروءية مختلفة عن الأخرى. هذه المساحة المقروئية «تنحكم» (إن صح التعبير) باللغة الجديدة والمستقبلين الجدد، والثقافة الجديدة.
ويمكن أن نبين هذه القضية عندما يترجم نص من لغة محدودة القراء والمستعملين والثقافة إلى لغة واسعة عدد المستعملين والقراء، والثقافة، إذ يمنحها ذلك انتشاراً، وظهوراً واستقبالاً نقدياً بقدر السعة التي تملكها اللغة الجديدة؛ الثقافة التي تتمثل بذوق أمة من الأمم في تركيب النص أو موضوعه أو جنسه، فقد تكون ثقافة تعنى بنوع من الأجناس الأدبية لا تعنى به ثقافة أخرى، فيجد النص فيها رواجاً، ويعاد اكتشافه من جديد كما لم يكن في لغته الأصلية.
وسنضرب على ذلك مثلاً بـ(ألف ليلة وليلة) التي لم تكن ذات أهمية بالنسبة للأدب العربي، ولم تلق رواجاً فيه حتى ترجمها الأوروبيون، وعنوا بها، ووجد ذلك الدارسون العرب، ما دفعهم بعد ذلك إلى العناية بها وقراءتها، بل دفع العرب إلى العناية بكل ما هو على شاكلتها سواء كان من القصص القديمة وتأخذ الطابع الأسطوري والغرائبي أو الأدب الشعبي.
كما أن الموضوعات والأفكار التي يتضمنها النص تؤدي إلى تكوين هذا الفرع من المعارف في اللغة الجديدة، وكأنه نبتة نشأت عنها دوحة كثرة الفروع والأغصان والأوراق، ما يؤدي بدوره إلى تغير في البيئة العلمية أو الأدبية التي نقل إليها، وربما تطور العلم الذي انتمى إليه النص الأول بفضل نقله إلى لغة وبيئة علمية أو أدبية جديدة بنشوء أعمال تكميلية أو موازية إليه، ما أعطى النص الأول قيمة ونماء وتطوراً.
وهذا سيدفعنا إلى السؤال عن أولى اللغتين بأن ينسب إليها النص، ويكون أصيلاً فيها، اللغة التي ظهر بها أول مرة، أم اللغة التي اشتهر فيها، ونما وازدهر، وصار متناً لدراسات أو نصوص لاحقة، وتحول من حبر على ورق إلى واقعة نصية وتاريخية وعلمية حقيقية؟
إن معرفة الحال التي يكون عليها النص بعد انتقاله إلى لغة أخرى، والأثر الذي يحدثه ويحدث به، يقضي بالقول: إنه نص أصيل كامل الأصالة في ذاته، وفي الحال الجديدة التي ظهر عليها، وإنه مستقل عن النص الأصلي. وهذا ما يدفعنا إلى تأكيد أهمي ة الترجمة من جهة، والتأكيد على أهمية الجهود التي تبذل فيها لإخراج النص الجديد على أبهى صورة، ليس بوصفها نقلاً، ولا خيانة، وإنما بوصفها إنشاء نص جديد مواز للنص الأصلي يحمل في تكوينه جميع الأمكانات الجمالية والمعرفية القادرة على صناعة تأثير يوازي أثر النص الأول أو ربما يفوقه.