د.محمد بن عبدالرحمن البشر
القرآن الكريم بليغ العبارات، جميل المفردات، واضح البيان، هادياً للأنام، لا يتوقف عند حد، وليس به ما يُرد، قولٌ فصل، يعيه كل ذي عقل، يشمل توحيداً، وأحكاماً وقصصاً وعبراً، به زاد المتبصر، وسقيا المتبحر، الذي يبحث عن لؤلؤه النقي، وجوهره الصافي، ومعدنه الخالي من كل شائبة، سواء في واضحة أو متشابهة.
مر تفسيره بمراحل عديدة، منذ أزمنة مديدة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول المفسرين له المبلغ بكل حرف منه، لكنه - صلى الله عليه وسلم - قد فسر شيئا يسيراً مما أشكل على البعض منهم، وربما أن أحدهم قد سأله عن أمر لا يعرفه، وكلنا يعلم أن القرآن قد نزل بلسان عربي مبين بلهجة قرشية، والصحابة رضوان الله عليهم، كانوا أصحاب سليقة لا يخفى عليهم ما في القرآن من معاني، ومفردات إلا ما ندر.
وتجدر الإشارة إلى أن الصحابة لم ينقل عن أحدهم أنه قد كتب كتاباً في التفسير، لكن من أتى بعدهم، وبعد انتشار التدوين، أخذ الناس في إسناد بعض الأقوال في التفسير إلى عدد من الصحابة، ولعل أبرزهم عبد الله بن عباس الذي لقبه البعض بترجمان القرآن، ولم يثبت له كتاباً رغم زعم البعض، وأول من فسر القرآن تفسيراً مطولاً، هو محمد بن السائب بن بشر الكلبي، وكان جده بشر وبعض أبنائه، ومنهم السائب قد كانوا بجانب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في صفين والجمل، وقد قُتل في إحدى الحروب مع مصعب ابن الزبير، وقيل فيه ما قيل والله أعلم بصحة ذلك، وهناك الكثير الذي نقل من تفسيره، مثل الطبري وغيره، ومعظم المفسرين عالة على الطبري، حيث أخذوا منه وزادوا زيادات طفيفة، مثل بن كثير، أو مختصره مثل السيوطي.
وقد علق بتفسير الطبري بعض الإسرائيليات التي نقلها من القصاصين، مثل ابن السائب، ووهب بن منبه، وابن إسحاق، وكعب الأحبار، وعبيد من شريه، ونقل الآخرون من الطبري تلك الأخبار، رغم عدم اليقين بصحتها، وذلك مثل ابن كثير، والسيوطي، والفيروزبادي، والبغوي، وإن كان أكثرهم شهرة هو ابن كثير، رغم أنه لم يأت بجديد، لكن الزمان، والمكان، وظروف السياسية، جعلته أكثر شهرة، كما أرى.
الحديث في هذا الموضوع يطول، وما نرمي إليه في هذا المقال، هو الحديث عن بعض الآيات الكريمات في سورة الطور، ولقد توقفت عند تلك الآيات أثناء قراءتي لها، لما تحمله من دعاء وتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى في محكم التنزيل: (قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أهلنَا مُشْفِقِينَ) سورة الطور (26) ومعنى الآية واضح، وقال المفسرون ما قاله الطبري في تفسيره حول كلمة مشفقين، أي كنا في أهلنا في الدنيا مشفقين خائفين من عذاب الله، وجلين أن يعذبنا ربنا يوم القيامة، وكلمة مشفقين الكريمة واضحة لا تحتاج إلى إيضاح، ومع هذا فقد شرحها المفسرون كما ذكر، ونلاحظ أن ابن عاشور في تفسيره قد أضاف فائدة جديدة، حيث ربطها بالخوف والوجل على الذرية، وهنا قد يحسن الإشارة إلى أن ابن عاشور قد أضاف شيئاً إلى بعض التفسير، وهو من معاصري هذا الزمان، ولم ينقل فقط ما كان يقوله السابقون. وأردف ابن عاشور تفسير الآية الكريمة التالية، والمرتبطة بما قد ذكره سابقاً، والآية الكريمة هي: (فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ). أي أن الله منَّ علينا بالعفو على ذرياتنا فأذهب عنا الحزن ووقاهم أن يعذبهم بالنار، فلما كان عذاب الذرية عذاباً للنفس، فوقى المشفقين وذريتهم من الحزن ومن عذاب السموم.
والآية الكريمة التالية، (إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ)، أي ندعوه في الدنيا انه هو اللطيف الرحيم، ونلاحظ أن بعض المفسرين قد دخل في إعراب بعض الآيات مع ذكر مجمل المعاني والمفردات في تلك الآية، وغيرها، وهذا يختص فقط بالمتخصصين في هذا الموضوع وليس لطالب الفهم العام لمعنى الآية.
وما أود الإشارة إليه، هو أن التوجه إلى الله تعالى بالدعاء، وهو سبحانه اللطيف الرحيم، باب عظيم، حيث يدعو الإنسان ربه بأن يشملهم بمنه وكرمه، وإصلاح ذريته، والوقاية من عذاب السموم، وهو مدخل عظيم للنجاة في الدنيا والآخرة، لأن الإنسان في موقف ضعف دائماً، وهنا يتجه إلى اللطيف الرحيم لينجيه وذريته عذاب السموم، وكذلك يقيه الحزن والاكتئاب في الدنيا والآخرة، ولا شك أننا ونحن في أيام مباركة في شهر كريم، أقرب إلى القبول بإذن الله تعالى، ولاسيما أن المقام والزمان يكون الدعاء فيهما أقرب إلى القبول بإذن الله، فهو ينادي البر الرحيم، فسوف يمنَّ الله عليه بإذنه، كما منَّ على غيره من الصالحين الذين شملهم البر الرحيم بلطفه ورحمته وكرمه.
وقال تعالى في آية كريمة أخرى : (أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أم هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ). ويمكن أن تكتب بالسين، وتنطق بها أيضاً، وفي هذه الآية الكريمة أمر مهم، وهو الجمع بين الخزائن، وتعني بذلك القوة المالية الكبيرة في الخزينة، وما يجمع فيها من المال ومن الممتلكات الثمينة، والمصيطرون فسرها بعض المفسرين بالجبارين المتسلطين، وهي القوة السياسية، ولكنا نعرف أن المال والسلطة صنوان.