د.صالح بن عبدالله بن حميد
الحمد لله الباعث الوارث، المبدئ المعيد، سبحانه وبحمده، الخلق خلقه، والأمر أمره، وهو الفعال لما يريد، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاطبه ربه بقوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ } (30) سورة الزمر، وقوله: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (34) سورة الأنبياء.
وبعد فإن الموت حق مشهود، وحوض مورود، يرده الصغير والكبير، والصحيح والمريض، والذكر والأنثى، وطويل العمر وقصيره: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (34) سورة الأعراف، وإذا حل الأجل، انقطعت الأسباب وعجزت الحيل.
فراق العزيز مؤلم يدك نياط القلب، ويصدع أركانه، فراق تبقى آثاره هاجس النفس، لا يكاد يغيب أو ينقطع، يطول مكثه بين الجوانح، ويستقر في خبايا الصدر، وكلما هاجت الذكريات زاد تراكمها على النفس مما يعسر معه نسيانها أو تناسيها.
فأكرم أخاك الدهر ما دمتما معاً
كفى بالممات فرقة وتنائيا
حياة دنيوية يتعاقب حلوها ومرها، وصفوها وكدرها.
وكل امرئ يوما سيلقى حمامه
وإن باتت الدعوى وطال بها العمر
لقد رحل حميد السجايا، ندي الكف، بحر العلوم، رجل الدعوة، عميد الرحالين، عمدة التراث، شيخ المعاجم، فقيه اللغة، صانع التاريخ، النسابة البلداني، الإخباري، المجد الجاد.
إنه صاحب المعالي والمقام العالي من ارتقى مصاف العالمية، وتسنم قائمة العلماء، واصطف مع العظماء، الشيخ العلامة البحاث محمد بن ناصر العبودي، الأديب البارع، المصنف، غزير الإنتاج، رجل دولة الإداري المحنك، رحالة من طراز فريد، داعية إلى الله، وربما كان أكثر دعاة أهل الأرض معرفة بالمسلمين وديارهم وأحوالهم وحاجاتهم.
وحينما رغبت في الكتابة عنه رحمه الله أصابتني حيرة عظيمة من أين أبدأ، وكيف أبدأ، وماذا أقول، وماذا آخذ وماذا أترك، فهو بحر متلاطم، منذ شبابه، وهو يدون يومياته، بحيث لا يكاد يغادر حدثاً أو فعالية إلا وسجلها بمجرياتها وتفصيلاتها، فحياته كلها مسجلة، فهو كنوز العلوم والمعارف.
ولكن لا بد من الكتابة فهذا أقل حقه، وهو صاحب الوالد، وصديقه، ورفيقه، وحبيبه، وأثيره، وجليسه، وأنيسه، فاجتهدت أن أحصر ما أستطيع حصره في ستة مرتكزات.
المرتكز الأول: علاقته بالوالد رحمه الله.
المرتكز الثاني: علو الهمة.
المرتكز الثالث: نهم المعرفة.
المرتكز الرابع: بث العلم ونشره.
المرتكز الخامس: حفظ الوقت.
المرتكز السادس: فقه العلاقات.
ثم خاتمة في نقاط سبع.
المرتكز الأول: علاقته بالوالد رحمه الله
أول ما فتحت عيني على هذا الرجل العظيم منذ بدأت أعي ما حولي أي سن التميز في حدود عام 1377هـ أو قبلها بقليل، وهو وعي يواكبه بدايات التحصيل، حين انتظمت في المدرسة الفيصلية الابتدائية في بريدة، ثم الانتظام في حلقات الوالد رحمه الله في الجامع الكبير وفي المكتبة العلمية، وفي حلقات الشيخ محمد الصالح المطوع رحمه الله في مسجده، في هذا الجو الإدراكي المتفتح على الدنيا، والتعرف على الأحوال والرجال كان الشيخ محمد العبودي مع مجموعة من الرجال المنتخبين الذين كان الوالد رحمهم الله جميعًا يخصهم بجلساته الخاصة بعد العشاء، وأيام العطل.
وفي تنزهات الوالد البرية القصيرة وهي يومية أو شبه يومية من قبل المغرب إلى صلاة العشاء، ثم العودة إلى المنزل، ومنها ما كان بعد الظهر مع حمل طعام الغذاء إلى البرية، وهذا غالبًا يكون يوم الجمعة بعد ظهرها، وكذلك بعض الدعوات الخاصة التي يدعى فيها فيصطحب هؤلاء الرجال، وقد نكون إخواني وأنا معهم في بعض الأحيان.
وفي النية إن شاء الله إصدار كتاب يترجم لهؤلاء الرجال.
لقد تفتحت عيناي والشيخ محمد العبودي هو التلميذ، والصديق اللصيق، فكنت أراه في البيت، وفي التنزهات التي ذكرت، لقد كان جليسه، ورفيقه، ومرافقه، وأثيره، في القرب والحديث.
وإذا علم القارئ الكريم طبيعة الرجلين أدرك سر العلاقة، فالوالد رحمه الله، هو العالم الذكي، النابه، اللبق، الذي يصطفي الرجال الحريصين على المعلومة الصحيحة، والمسألة العلمية المحققة، كما هو المحب للحديث، الودود، في جلسات الصداقة والمؤانسة الجامعة بين الجدية والمرح الوقور، والشيخ محمد العبودي هو الإخباري، الأديب، الأنيس، المتحدث، المتابع لكل مستجد، المنقب عن كل معلومة، المتفتح في الفهم، مع الظرف، وحسن المنطق، وأنس المجلس، وأدب الحديث، ووقار التعامل.
كل هذا والشيخ محمد العبودي لا زال في أوائل سن الشباب، ثم استمر اتصال الشيخ محمد وتواصله بالوالد حتى بعد أن انتقل الاثنان من بريدة، وكان انتقالهما متزامنًا متقاربًا في أوائل الثمانينيات من القرن الهجري المنصرم ما بين 1382هـ - 1384هـ، فالوالد انتقل إلى مكة المكرمة ثم الرياض، والشيخ العبودي انتقل إلى المدينة، ثم الترحال، والرياض، والتواصل بينهما لم ينقطع، وأذكر أن الشيخ العبودي حين بدأ رحلاته الأولى إلى إفريقيا، وقبل أن يصدر كتابه في إفريقيا الخضراء، ثم بقية قارات الدنيا كان بعد كل سفرة يجلس إلى الوالد ويحادثه، وكأنه يقدم تقريرًا مفصلًا عن الرحلة بأسلوبه الماتع، ودقته المتناهية، ومشاهداته الدقيقة، وملاحظاته العجيبة، والوالد رحمه الله بشغفه وذاكرته، ودقة متابعته، فيتفاعل الرجلان التفاعل العجيب، ناهيكم بما يتذكر أنه من دروس في هذه الرحلات في الدعوة وشؤون المسلمين.
إنها أحاديث ولقاءات تعكس طبيعة الرجليين من تعجب، وإعجاب، وتحليل، ودروس، وإفادات.
هذه هي الصورة الحميمة التي أحملها، والتي تفتحت عيناي عليها، واستمرت في النمو والتعاظم حتى أكاد أشعر وكأنه أحد أفراد الأسرة، بل هو واحد منها قربًا، وعلمًا، ومحبة، وصلة، وأثرًا، وتأثيرًا، وإيثارًا.
لقد كانت العلاقة بينهما رحمهما الله: أمتع ذوقًا، وأطول أمدًا، وأعمق صداقة، لأن رابطة العلم توثق بينهما، وذائقة الأدب تؤلف منهما، وتبادل الأحاديث والأخبار يجمع بينهما، وقبل ذلك وبعده طيب القلوب، وتآلف النفوس، ورجاحة العقول.
لقد كانت علاقة أبوة، وبنوة، وعلم، وعمل، وصداقة، وسمر.
تعز فلا إِلْفَيْنِ بالعيش مُتِّعا
ولكن لوُرَّاد المنون تتبعا
* * * * *
لكل اجتماع من خليلين فرقة
ولو بينهم قد طاب عيشٌ ومشربُ
أما أنا شخصيًّا فبعد أن انتقل الوالد رحمه الله إلى الدار الآخرة وفارق الدنيا، فقد استمر التواصل مع معالي الشيخ محمد، وكان يأنس بلقائي، يستعيد كل ذكرياته مع الوالد، وبخاصة إذا حضرنا عنده أخي أحمد وأنا أسترسل في ذكريات ماتعة وحديث عن الوالد رحمه الله، وما يكنه له من محبة وتقدير وامتنان وإعجاب، بل إنه رحمه الله ملأ كتبه حديثًا عن الوالد وذكر فضله عليه - كما يقول رحمه الله:
بل إنني حاولت - على سبيل المثال - إحصاء موارد ذكره في معجمه أسر بريدة فقد ذكره أكثر من مائتي مرة واثني عشرة مرة.
كما أني كنت قريبًا منه جدًا في قراءاتي لكل ما يصدر عنه، مما يتحفني به ابنه البار الشهم الكريم النبيل العالم الأديب الأستاذ أخونا وصديقنا الدكتور/ محمد المشوح، فأكاد أقول إني قرأتها كلها، وبخاصة المعاجم، وكثير من كتب الرحلات، بل إنني كنت أصطحب معي كتب الرحلات للبلاد التي أسافر إليها لأن إمامة المسجد الحرام والمواقع التي شرفت بالعمل بها من عضوية مجلس الشورى ثم المسؤولية فيه، وفي مجلس القضاء أتاحت لي فرصًا كثيرة للسفر في مهمات خارجية، فكنت أصطحب مؤلفاته عن هذه البلدان، فكانت أطالس تاريخية وجغرافية من نوع خاص: خرائط، وعادات، ومعلومات ثرية عن الأرض، والسكان، والمناخ بكل معانيه، وتقلباته وأجوائه.
هذه هي الركيزة الأولى، وبقية الركائز حديثي عنها منطلق من هذه المعرفة والانتماء للشيخ رحمه الله.
المرتكز الثاني: علو الهمة
علو الهمة من أعلى مقامات الريادة، وأقرب طرق الوصول إلى كل الأصول.
لقد تجلى فيه - رحمه الله - علو الهمة بكل معانيها، وسمو المقصد بكل أبعاده: عناية الشيخ الدقيقة في كل ما يدخل فيه، يدون، ويدقق، ويستقصي، ويحلل، ويستنبط، ويفسر، ويتتبع الأحوال.
في شخصية واضحة، جريئة، نزيهة، حيادية، موضوعية، علمية.
مشغول في همه وهمته، وقصده، وعمله، وعلمه، لا يحتفى بها بالظهور، ولا يسعى إلى الأضواء، ولا يأبه بها، ولا يسأل عنها.
ومن حزمه وهمته أنه لا يسمع بمعلومة إلا ويباشر في تدوينها، مهما كانت الحالة التي هو فيها، ولو في ورقة صغيرة أو كان على قارعة الطريق، أو في سرير النوم، ولا يعتمد على الذاكرة مع أن ذاكرته قوية للغاية في الحفظ، والتصور، والتصوير.
ولقد أعطاه الله على قدر همته ونيته فبارك الله له في علمه وعمله وعمره.
جدَّ واجتهد وما لانت له قناة حتى الوفاة، جمع بين الانضباط، والحزم، والدقة، والدأب الذي لا يكل، عين تشاهد، ويد تدون، وآلة تصوير، وتوثق، لا يحمل كتابًا ليقرأه، بل قال: إنه لا يجد وقتًا، فهو يسافر ليكتب، ويؤلف، ويوثق، لا ليقرأ.
المرتكز الثالث: نهم المعرفة
تميز الشيخ رحمه الله في مسيرته بنهم المعرفة والجد في طلب العلم.
نهم المعرفة وطلب العلم، وهذا النهم امتاز به الشيخ في مسيرته العلمية من نعومة أظفاره في ميدان العلم والتحصيل، وبهذا أضحت المعرفة وطلبها سلوكًا له لا ينفك عنه، بل قد يعجب القاري إذا علم بأن الشيخ تواصل بالمعرفة واتصل بحبلها السري منذ إدراكه للعلم ومجالساته لأهله، فهو يصطاد الشوارد، ويحكم قيدها، ويتتبع المعلومة تتبع الباحث، في مناجم الذهب يفرح باليسير ولو كان البحث عنها من العسير.
ولمعاليه وسيلتان وفقه الله إليهما: الحفظ، والكتابة، فقد أحسن استغلالهما، وقد آتت ثمارهما حيث لاقت قلبًا عقولًا، ولسانًا سؤلًا، وذاكرة ذكورًا، ومن خصال الشيخ في هذا المقام الصبر في التحصيل والمثابرة، ومن تتبع أعماله العلمية أدرك القدر الذي اتسم به معاليه من الحفظ وجلد الكتابة، وحب المعرفة، وعشق العلم.
المرتكز الرابع: بث العلم ونشره
نهم بث العلم ونشره، وهذه الركيزة ظاهرة في مخرجاته العلمية من الموسوعات والمؤلفات النوعية في مضامينها ومسائلها، ولذلك عرفت مدوناته بالمشاريع العمرية، فهي تحمل الحقائق بصحبة الوثائق، وقد امتاز بثه للمعرفة أنه اعتنى بجانبين: الأول: الصيغة والقالب، الثاني: الأصالة والتأصيل في المعرفة.
ومن سمات عناية الشيخ بنشر العلم أنه يكتب حراكه المعرفي الناشئ عن رحلاته التي أخذت وقتًا من عمره، وهي رحلات استكشافية، يتلمس علوم البلدان، ويرصد أعراف أهلها من المسكن والمأكل والملبس والعوائد، وهذا النوع من النشر يعتبر تصويرًا مكتوبًا يضاهي القنوات العالمية والوثائقية، فكان قلمه تصويرًا وصفيًا أدبيًا، ينتفع منه الداعية، والمثقف، والسياسي، والجغرافي، والمؤرخ، وغيرهم، ولكل أناس مشربهم.
وهذا النهج في البث للعلم ليس قاصرًا على المكتوب بل له منصته الملفوظة في المحافل والمجالس العامة والخاصة، وأنت عندما ترقب حديثه تدرك أن المعلومة والمعرفة تنصب من فيه صبًّا، حتى إن المتابع يشعر بأن المعلومات تتزاحم في عقله أيها تسبق للسانه، وامتاز أنه له تصنيف خاص في حديثه، فهو يتحدث عن الموضوع الأصل ثم يستصحب العلوم الفرعية المغذية لذلك الأصل، فكأنه يرسم لوحة متعددة الألوان ولكنها تنتهي نحو تكامل في المعلومة والصورة.
لقد أثرى الدنيا بإنتاجه الغزير، صنف المصنفات، وملأ أرفف المكتبات، وسود الصحائف والأوراق بعلومه ومعارفه، وأفرغ ما في جعبته من العلوم، والذكريات، والمواقف الطريفة والغريبة والدقيقة والجليلة، القريبة والبعيدة، المحلية والدولية من كافة أرجاء الدنيا، في أخبار الدول، والمدن، والقرى، والجزر، والأسر، والبقاع، والوثائق مما لا يكاد ينافسه فيه أحد أو يقاربه.
مؤلفاته حدائق ذات بهجة، وجنات ألفافًا، جاب البلدان، كما جاب الأسفار (جمع سِفْر).
أشرف على حضارات الأمم، وخبر ثقافات الشعوب، وخط طريق الدعوة، وخدم قضايا أمته بأسلوبه الحكيم، وطريقه الرفيق.
وستظل آثاره ومصنفاته نورًا ساطعًا، وعلمًا نافعًا، ومعرفة سيارة، لا ينطفئ ذكره، ولا يعفى أثره على تعاقب الدهور والأزمان بإذن الله.
كالبدر من حيث التفتَّ رأيته
يهدي إلى عينيك نورًا ثاقبا
كالبحر يقذف للقريب جواهرا
جودًا ويبعث للبعيد سحائبا
فالشمس في كبد السماء وضؤها
يغشى البلاد مشارقا ومغاربا
وكل ما خلفه الشيخ من تراث عظيم كان بخط يده، وتسطير بنانه، وليس بآلة كاتبة، ولا بواسطة كاتب خاص أو مدير مكتب، لم يستخدم الحواسب الشخصية، ولا المكتبات التقنية، ولا الهواتف النقالة.
لقد خلف تراثًا عظيمًا سيكون منهلًا عذبًا، وموردًا عظيمًا لمن جاء بعده لتغترف الدلاءُ من معينه ما شاءت من أنواع العلوم والمعارف العلمية، والفقهية، والأدبية، والتاريخية، والجغرافية، والاجتماعية، والوثائقية، كنوز معرفية في الاقتصاد، والنوازل، وعلم الحيوان، وعلم النبات، وعلم المصطلحات، وغيرها.
المرتكز الخامس: حفظ الوقت
ليس من المبالغة الجزم بأن سر تميز الشيخ -إضافة إلى ما سبق - حفظه الصادق والدقيق للوقت، يقرأ، ويكتب، ويشاهد ليدون، ويرحل لينقذ ويدعو ويساعد.
بعيد غاية البعد عن المقابلات الرسمية، والارتباط بذوي المناصب والمواقع، بل إنه يجد في الابتعاد عنهم حفظًا لوقته، واشتغالًا بمهمته التي جبله الله عليها من الجد والحرص على الوقت، ودقة التدوين، في صبر وجلد قل نظيره، وراحته في عدم الراحة.
نعم لقد حفظ وقته، ووقف حياته من نعومة أظافره إلى أن وافته منيته، وهو يدون، ويكتب، ويبدع، ويقتض من الشوارد، ويدون من الموارد في كل فن، ومن كل قطر، ويفتق من اللآلي، والدرر ويستنبط من الوقائع والأحداث وأحسب أنه بصدق عليه:
وليس على الله بمستنكر
أن يجمع العالم في واحد
منذ شبابه وهو يدون، ويكتب، ويسجل، وينتقل في بلاد الله الواسعة.
ما آب من سفر إلا وأزعجه
رأى إلى سفر بالعزم يزمعه
كأنما هو في حل ومرتحل
موكل بفضاء الله يذرعه
ولئن كانت هذه من أبيات لابن زريق وهو مجبر عليها غير محب لها فإن هذا في حق شيخنا سفر عبادة ومهمة وخدمة لأهل الإسلام، بل لفقراء المسلمين ومساكينهم.
المرتكز السادس: فقه العلاقات
فقه العلاقات، من عرف الشيخ وخريطة علاقاته يلمس الذكاء الاجتماعي الذي كان يتحرك به معاليه، فمن صغره وهو يحسن انتقاء المعارف، ويسبر أفضل المجالس، وأنفع من يجالس، وعندما يستعرض المتابع لمدونات الشيخ يظهر له مرسم علاقاته، فمنها التواصل مع علماء الشريعة وأربابها ممن عرفوا بالتأثير وحسن الأثر، من أمثال سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ المفتي العام للبلاد وسماحة الشيخ الوالد عبدالله بن محمد بن حميد، وسماحة الشيخ الوالد/ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز - رحمهم الله، ومن وفائه أن ألف عن كل شخصية من هذه الشخصيات التي التقى بها وارتبط بها مؤلفات ثرية بلغ بعضها المجلدات.
كما امتاز بتواصله مع جملة من الأدباء، والمفكرين، والسياسيين، ومن تصفح كتبه وجد الحدث والإحالة لتلك العلاقات ودورها في تكوين معارفه، وهذه الركيزة حرية بالعناية والدراسة من أهل التخصص في علم العلاقات والتواصل.
وبعد فقد رحل رحالة الدنيا عن الدنيا في أفضل أيام الدنيا في يوم الجمعة الثاني من ذي الحجة الحرام عام 1443هـ، فرحمه الله وأحسن إليه وأجزل مثوبته لقاء ما قدم لدينه وأمته وبلاده وبلاد المسلمين.
وأختم بهذه اللقطات:
الأولى: في العادة أن العالِم يموت ويموت بموته علمه ما عدا ما ألفه أو حفظه عن تلاميذه، أما الشيخ محمد العبودي فأحسب أن جميع علمه وحياته الدقيق منها والجليل قدر منه في مؤلفاته المطبوعة والمخطوطة، لأنه لازم التدوين منذ نعومة أظافره كتب كل شيء، ودَونَ كل فكرة، وسجل كل بادرة مع التحليل، والتفسير، والتعليق، والاستنباط.
وهذا أعظم عزاء لنا في الشيخ رحمه الله، وما مات من خلف.
الثانية: مع هذا العمر المديد والتطواف في كل أرجاء العالم، والاختلاط بكل الأمم والشعوب بقي محافظًا على دينه، معتزًا بقيمه، معتدًا بلغته، مشيدًا بوطنه وتراث أمته، مع تواضع أخاذ، وزهد في الأضواء.
ما تغير، ولا تشدد، ولا تنطع، ولا تساهل، ولا تهاون، وما فرط، ولا أفرط.
الثالثة: مع كل هذه الإنجازات وكل هذه العلوم والمعارف التي يستبطنها يفرح بمن يفيد، ولا يستنكف من شكره على رؤوس الأشهاد، وينسب الفائدة إلى صاحبها متمثلًا قول الشاعر:
وإن أفادك إنسان بفائدة
من العلوم فلازم شكره أبداً
وقل فلان جزاه الله صالحة
أفادينها وألق الكبر والحسد
الرابعة: وإن كان من حق الشيخ رحمه الله أن نوصي الجهات المسؤولة وذات الاختصاص من الجامعات ومراكز البحوث بالعناية بتراث الشيخ المسموع والمكتوب لتقريبه للناس لكن أحسب أن مصنفات الشيخ وتراثه فيه من الجاذبية والثراء والتنوع ما يستغني به عن الوصية.
الخامسة: ما أصدق أبيات العلامة الخولاني النحوي في رثاء شيخه وكأنه يعني شيخنا:
مازلت تلهج بالتاريخ تكتبه
حتى رأيتك في التاريخ مكتوباً
حجبت عنا وما الدنيا بمظهرة
شخصا وإن جل إلا عاد محجوبا
كذلك الموت لا يبقى على أحد
مدى الليالي من الأحباب محبوبا
السادسة: ومن أعظم ما يلفت في حياة الشيخ المديدة وسيرته الواسعة واحتكاكه بكل الطبقات والفئات ما يقارب القرن من الزمان إلا أنه لم تحصل له معارك مع أحد أو خصومة، فهو متصالح مع نفسه ومع الجميع، وضع الله له المحبة والقبول فلا يعرف أنه رد على أحد أو رد عليه أحد، وهذا من العجائب رحمه الله.
السابعة: وهي من أعظم العزاء بل من أعظم ما يفرح ويبهج ومالا يمكن تجاوزه أو الغفلة عنه في سيرة الشيخ وهو هيأ الله له بل نحسب أنه من البركة في العمر والعمل، وذلك بأن رزقه الله بولد لم تلده زوجته على حد المقولة: (رب أخ لك لم تلده أمك)، إنه العالم الأديب الأريب الكريم الابن البار الشهم النبيل الشيخ الدكتور/ محمد بن عبد الله المشوح، فكان ابنه، وصاحبه، وصديقه، ولصيقه أكثر من عشرين عامًا، أثمرت هذه السنين لنا وللمكتبة السعودية والعربية والإسلامية هذا الكم الهائل من تراث الشيخ ومعاجمه ورحلاته وسائر الفنون التي طرقها الشيخ فقرب الدكتور محمد المشوح علوم الشيخ للناس، وقدمها لهم عامتهم وخاصتهم بثياب قشيبة سهلة المنال قريبة التناول.
إنه ناشر علم الشيخ، والقائم على تراثه العريض، ضبطًا، وتحريرًا، ومراجعة، وقد كان ثقة الشيخ المطلقة في مشاريعه ومصنفاته.
ومن حقنا أن نقول إن كان للشيخ رحمه الله الفضل العظيم على طلبة العلم، ومحبي القراءة، والدعوة، والدعاة، والرحلات، وعموم أهل الإسلام فإن للدكتور محمد المشوح الفضل العظيم الذي لا ينكر في حفظ تراث الشيخ وجمعه وطبعه ونشره.
هذا ما قدرت أن أدونه عن هذه الشخصية العظيمة الواسعة مع الاعتراف بالعجز والتقصير والقصور عن الإحاطة بما دونه وخلفه من تراث ولكن:
لعمرك ما وارى التراب تراثه
ولكنه وارى ثيابا وأعظما
* * * * *
أظلمت بعده الديار وكا
ن سراجها والبدر المنيرا
والحمد لله رب العالمين وغفر الله لشيخنا ورحمه وأجزل مثوبته، وعوض المسلمين خيرًا وأصلح عقبه وذريته.
** **
- إمام وخطيب المسجد الحرام