د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
روّى حجاج بيت الله الحرام دلاءهم من نمير مكة المكرمة، وارتشفوا من زمزمها ما شُربَ له، وذكروا اسم الله في أيام معلومات، وتجلّت في حجّهم عزة الإسلام والمسلمين تحت ظلال ممدودة، وفوق نمارق مصفوفة، ورادوا بلادنا المملكة العربية السعودية لإتمام مناسكهم بذنب مغفور وسعي مشكور بإذن الله، فحين احتضنت بلادنا هذا العام من المسلمين الذين جاءوا يؤدون ركناً من أركان الإسلام ويتمّمون شعيرة حجهم شاركتهم بلادنا تلك الحاضنة الرطبة، رقيقة الحواشي شرط القدرة والاستطاعة {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}، ففسحتْ بلادنا آفاقها في تلك البقعة المقدسة التي خصها رب العباد بأول بيت وُضع للناس، تُجلّلُ مساعيها غايات مُثْلَى منبعها عقيدة راسخة، ويقين أكيد أن ذلك الحشد السنوي المتصل بالإيمان والضارب في أعماق المسلمين، تلزمُه إرادة لا تلين، واتكاء متين على أولي العزم من العاملين في ذلك النطاق تخطيطاً وتنفيذاً، فعندما يكتمل بزوغ أهلة الحج، ويتحقق وجود الحجاج في المشاعر المقدسة، فإن الوعي بهم يتمدد؛ وتحتويه -بإذن الله- السماوات والأرض، فتبدو مكة المكرمة مدينة الأنوار وهي تُسقي ترياقها لكل طارق يؤمها، فتتجلّى فيها جهود حاضرة جبّارة لضبط ذلك المؤتمر الإيماني المتصل بعقيدة المسلمين المتمم لإسلامهم، فيشهد الحجاج في داخل المشاعر والعالم أجمع جموعاً تُرتبُ تفاصيل المشهد كاملاً وفق توجيهات قيادتنا الرشيدة؛ فإذا ما تحدث العالم عن علم إدارة الحشود فهو في بلادنا مكين أمين، وإن تباروا في أطروحات التنظيمات الإدارية فقد نالتها بلادنا في مواسم الحج باستحقاق مع مراتب الشرف بلا منازع؛ وإن رُصدت مواقع الأمن وحياض الحماية فإن أمن الحجاج وثائق فداء حقيقية تصدح في العلياء، ويستظل بها الحجاج في كل شبر من المشاعر المقدسة، وإن كانت للبيئات المثالية حين الحشود أمثلة عند المنظّرين، فبلادنا حصدتْ منها أطواق سمو، وبطاقات تميز، وأوسمة شرف.
وإن أشاد العالم بمؤسسات الصحة وطب الطوارئ فنحن في العدوة العليا منها فلم تكن منشآتنا الصحية معدّة لاحتضان العوارض المؤقتة فقط إنما بلغت شأناً عظيماً قدرة واستيعاباً وإتماماً...
إن طبيعة الإنجاز في واقع المشاعر المقدسة، وتتابع المقاصد السامية في مواسم الحج وكثيراً من الإستراتيجيات الكبرى التي منحتها قيادتنا الرشيدة مفاتيح الدخول إلى كل الفضاءات لتيسير أداء الشعيرة على ضيوف الرحمن في مواسم الحج المتوالية كل عام بتوفيق من الله ثم بعزيمة المخلصين من أبنائها، ذلك الاستمرار المتدفق، وتلك المشاريع العملاقة في المشاعر، وتلكم الحشود المؤهلة لراحة الحشود القادمة من الحجاج ثم الحصاد السنوي في كل موسم عندما تسطع أضواء المنجزات في الآفاق، ويعلو صوت الاستحقاق بأن خدمة ضيوف الرحمن هو شرف بلادنا الذي تسمى به قادتنا وتساموا به بين الأمم، كما أن مواقفنا الثابتة منذ الأزل تجاه ألوية الحجيج التي برعتْ فيها قيادتنا الحكيمة حين نجحت في صناعة التنسيق بين قطاعاتها المختلفة لتحقيق خدمات متميزة لضيوف الرحمن كما أبدعتْ بلادنا في قيادة مراحل أداء النُسُك بكفاءة واقتدار، وتعاملتْ مع المواقف المختلفة وما يُخاتل مواسم الحج من حوادث عارضة بالحكمة وفصل الخطاب، كل هذا وذاك اختصاص لبلادنا وفضل من الله، ولبلادنا.. كان شرف المكان والشعيرة واستباق الفضل في ذلك، ولعل من حديث الواقع حين نقول إنَّ خدمة حجاج بيت الله أصبحت جزءاً من هوية هذه البلاد الطاهرة ومن صِلاتها بالآخر ومن رموز حضارتها، ومكوناتها الفكرية، وهو شرف لا ندّعيه، بل حقيقة ماثلة لا تملكها دول العالم قاطبة تُرى رأي العين، كما أن بلادنا بلغتْ في العناية والاهتمام بمواسم الحج ما لم يبلغه تنظيم أو حشد دولي آخر لسمو المقصد ونبل الهدف إضافة لارتباط تلك الشعيرة بعقيدة المسلمين وتمام دينهم، فخدمة الحجاج هي خدمة للإسلام والمسلمين، وتأسيساً على ذلك التفرد الذي يُسطّر بمداد من الذهب أعواماً عديدة ولأنه في كل عام تبرز الجهود شامخة تحزم عزائم القوة، وتباري أوقات الإتمام.
فإنني ومن منبر الإعلام المكتوب عبر صحيفتنا الغراء الجزيرة اقترحُ أن يُدرج الحج ضمن مواد الهوية التي تُدرّس للأجيال في منشآت التعليم في بلادنا، فكما يُدرّس تاريخ بلادنا -أدام الله عزها- يكون إفراد (الحج في بلادي) بمقرر تدريسيّ لا يُركز على محتوى الشعيرة ومناسكها فهذا الشأن حفظه لنا كتاب الله وسنة رسوله ويدرّس ضمن مقررات العلوم الدينية، إنما يتضمن المقرر تاريخ تطوير بيئات المشاعر، وخدمة الحجاج في بلادنا والخطط العملاقة التي تبلور خلالها ذلك كل عام، والمساحات المضيئة في أعمال الحج، وقواعد التأسيس لصناعة المواسم الناجحة في الحج، وهي معارف حافزة ومحفزة للأجيال أن يفاخروا ببلادهم، وأن يظهر منهم أجيال توّاقة للإسهام في صناعة تلك المواسم الإيمانية!
حفظ الله بلادنا وقيادتنا الرشيدة التي سمتْ وتسامتْ في موسم الحج هذا العام 1443هـ وفي كل عام بإذن الله.