د.علي عبدالله موسى
نرحّب بفخامة الرّئيس بايدن في المملكة العربيّة السعوديّة التي تقوم على ثوابت تاريخيّة وكونيّة تضرب بجذورها في أعماق التّاريخ، كان أوّلها وجود أوّل بيتٍ وُضع للنّاس للعبادة، يعود تأسيسه إلى بداية وجود الإنسان على الأرض، ونتيجة للموقع الجغرافيّ الذي يوجد فيه بيت الله الحرام - الكعبة - بين جبال مكّة ووسط أوديتها، فقد تعرّض للتّصدّع والهدم أكثر من مرّة؛ نتيجةً لكثرة السّيول، ثمّ أعيد بناؤه مرات ومرّات. وقد شرّف الله تعالى إبراهيم وولده إسماعيل، عليهما السّلام، حين عهد إليهما أن يطهّرا البيت من الشِّرك والرّيب، وأن يبنياه خالصًا لله، معقِلا للطّائفين والعاكفين والرُّكّع السّجود، ثمّ يؤذِّن في النّاس بالحجّ إليه؛ ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيّامٍ معلومات، فجاء النّاس من كلّ فجٍّ عميقٍ، بلغاتٍ وأجناسٍ وأعراقٍ مختلفة، ومن ممالكَ وإماراتٍ وبلدانٍ كثيرة، يحجّون ويتاجرون، حتى انصهرت اللغات واندمجت بعضها ببعض مكوِّنة اللغة العربيّة الفصيحة التي نالت من القدسيّة والتّكريم ما لم تنله لغة أخرى عبر التّاريخ، فوحّدت النّاس، وآخت بينهم، وعرّبت ألسنتهم حتّى صاروا يتنافسون في تعلّمها، ويسمّون أنفسهم عربًا نسبة إليها، وخرج الشّعراء المؤبَّدون في التّاريخ العربيّ والإنسانيّ، الذين نهضوا باللغة إلى أرقى المستويات التّعبيريّة، فكانت القصائد المميَّزة تكتب بماء الذّهب وتعلّق على أستار الكعبة، بوصفها وثائقَ لغويّةً وتاريخيّةً مهمّةً، تؤكِّد عمق الإحساس بقيمة الأدب، والشِّعر بوجهٍ خاصّ، في ذلك العصر البعيد، وعلى مكانة الشّاعر بوصفه حارسًا للّغة ومجدِّدًا في أنماطها وأساليبها التّعبيريّة؛ وهذا أقدم وسام وأقدس تكريم في تاريخ اللغات - يا ليت قومي يعلمون فيطلقوا أقلامهم في ميادينِ العربيّة الواسعةِ الرَّحبة - وأصبحت الأسر تتنافس في تعليم أبنائها وبناتها اللغة العربيّة، وتحفّظهم الشّعر، وتسعى إلى أن يولد أبناؤها وبناتها شعراء؛ كي يذيعَ صيتهم ويشتهروا بين النّاس، وينالوا المجد والخلود بهذه اللغة. وقد أصبحت الأسواق منصّات للمبارزة الشّعريّة بين الشّعراء حتى تنوّعت أغراض الشِّعر وتعدّدت بحوره، فتحول الشِّعر العربيّ إلى مؤسّسة فكريّة وحركة ثقافيّة نهضت بالقبائل المجاورة لمكّة، وبالحجّاج الذين يؤمّون البيت الحرام.
ولقد تسبّبت شهرة الكعبة، ورفعة مكانتها، وتحوّلها إلى مركز جذب كونيّ إلى حقد الكثير من الأمم على مكّة؛ فجاء أصحاب الفيل، يقودهم أبرهة الحبشيّ، بجيشٍ عظيمٍ يقصدون هدم الكعبة، ولم يتمكّن أهل مكّة وقتذاك من الدّفاع عنها؛ لقلّة عَتادهم وإمكاناتهم، وكانت الكلمة المشهورة لجدّ الرّسول محمّد- صلّى الله عليه وسلّم-: «أنا ربُ إِبِلي، وللبيتِ ربٌّ يَحميه». فهزم اللهُ أبرهةَ، وتدخّلت القدرة الرّبّانيّة لدحره.
في ذلك العام وُلد محمّد بن عبد الله- صلى الله عليه وسلم-، من نسل إبراهيم عليه السّلام، واستمرّت الحركة الفكريّة والثقافيّة واللغويّة في الانتشار والتّوسّع، فوصلت اللغة إلى أرقى مستويات الفصاحة والبلاغة والبيان والإعجاز، وأصبح لدى النّاس الفهم السّليم والمُكنة اللغويّة العالية، وتطوّرت مَلَكة الحفظ؛ ليكونَ العَرَبُ مؤهَّلين وقادرين على استيعاب الرّسالة الجديدة والحدث العظيم الذي سوف يكون في مكّة، إذ أنزل الله القرآن الكريم على محمّد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بلسانٍ عربيٍّ مبين، فكان القرآنُ آخرَ كتابٍ مقدّسٍ، وكانَ محمّدٌ آخر رسولٍ من هذه البقعة المبارَكة. فأذهل الشّعراء والأدباء والحكماء من العرب حتّى نسبوه إلى الشِّعر، وحاول بعضهم تقليده فخابت مساعيه، وقد تحدّاهم الله بأن يأتوا بحديث مثله، ثمّ أن يأتوا بعشر سورٍ مثله مُفتريات، ثمّ أن يأتوا بسورةٍ مثله، ثمّ أن يأتوا بسورةٍ من مثلِهِ، فعجزوا، وكان قد قطع عليهم المحاولةَ سَلَفًا حين أنزلَ، قبل ذلك كلِّهِ، قولَهُ تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (88) سورة الإسراء.
لهذا، كانت معجزاته وخوارقه تفوق أخيلتهم وتصوّراتهم وإمكاناتهم اللغويّة؛ لأنّه كلام الله أوّلا، ولأنّه للعبادة والصّلاة والشّرع وتنظيم الحياة ثانيًا. وقد أرسل الله محمّدًا -صلى الله عليه وسلم- إلى النّاس كافّة؛ قال تعالى: {وما أرسلناك إلّا كافّة للنّاس بشيرًا ونذيرًا ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون}. ولهذا هيّأ الله النّاس لغويًّا لفهم كلامه وشرعه، وما كان الله لينزّل كتابه على أناس مشتّتين لغويًّا وغير قادرين على استيعاب ما فيه من تشريعاتٍ وتوجيهاتٍ ومواعظ.
وقد ميّز الله العربيّة عن غيرها من اللغات بالقرآن، فقال تعالى: {ولو جعلناه قرءانًا أعجميًّا لقالوا لولا فُصّلت آياته ءاعجميّ وعربيّ}، وقال: {وَلَوْ نزّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم ما كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِين}. هنا فقط، يا فخامة الرّئيس، تلتقي الأرض بالسّماء منذ بنيت الكعبة في أوّل وجود للبشريّة، وحتّى لحظة تحوّلها إلى قبلة للكون يتّجه إليها ملايين النّاس للصّلاة والعبادة والدّعاء في كلّ حين.
فخامة الرّئيس، هذه البلاد المبارَكة زاخرةٌ بالخيراتِ حافلةٌ بالمعجزات. لقد كانت في بداية القرن الماضي موحشة وخالية من أسباب التّطوّر، وكانت الشّعوب الأخرى تتطوّر وتتقدّم، ونحن في هذه البِيْدِ والفيافي الجافّة ننتقل من منطقة إلى أخرى للبحث عن الماء والكلأ لمواشينا، ولم نكن نترك صلاتنا وصيامنا وعبادتنا وثقتنا بربّنا، فأفاض الله علينا من عظيم عطائه وسابغ نَعمائه؛ لإيماننا به تعالى، واعتزازنا بديننا القويم الذي هو أصل الأديان كلِّها، فهو يقوم على مبدأ راسخ هو توحيد الله، وإفراده بالعبادة، والاستسلام له بالطّاعة، والخلوص من الشّرك، ولهذا سمّانا الله مسلمين لاستسلامنا له تعالى. وهذا ما كان عليه جميع الأنبياء والمرسلين، ومنهم إبراهيم وموسى وعيسى، وهذا القرآن كلام الله، يصف الأنبياء والرّسل جميعًا بالمسلمين، ولا شكَّ أنّكم تعلمون ذلك يا فخامة الرّئيس، ويعرفه الكثيرون من علمائكم الجادّين غير المؤدلَجين. كما أنّ مريم ابنة عمران قد حازت شرفًا عظيمًا في ديننا، فاختصّها الله بسورة في القرآن تحمل اسمها، ونتلوها في صلاتنا، وهي عند ربّنا، سبحانه، وعندنا، نحن المسلمينَ، خيرُ نساءِ العالمين، كيف لا؟ وهي أمّ عيسى النّبيّ المسلم لله تعالى الذي كان خَلْقُهُ معجزةً عظيمة؛ إذ اقتضت حكمة الله أن يخلقه من غير أبٍ، لتكتملَ بذلك دائرةُ الخَلْقِ البشريّ.
لقد تتالت المعجزات الرّوحية في بلادنا، ولكنّ المعجزات المادّيّة فيها، التي تدركونها جيّدًا، من أهمّ معجزات هذا الزّمان، ففي الوقت الذي ظهرت فيه التّطوّرات، وانتشرت الصّناعات في كلّ مكان، اقتضت إرادة الله أن يكون لهذه البلاد دور محوريّ ورسالةٌ جليلةٌ؛ للعبرة أوّلا، وصونًا لهذه البلاد التي ضمّت أوّل بيت وُضع للنّاس من أن تضعف أو تموت، ففجّر الله النّفط من تحت أقدامنا مثلما فجّر الماء من تحت أقدام إسماعيل عليه السّلام، وصار النّفط هو المحرّك الحقيقيّ للمصانع والآلات ووسائل النّقل والمواصلات وعجلة الاقتصاد، وأتى الله بالنّاس من كلّ فجّ عميق ليشهدوا منافع لهم في هذه البلاد التي تحرّك اقتصاد العالم بحكمة ربّانيّة وبعدالة سماويّة تتجاوز فكر أبرهة الأنانيّ والمعتدي والمحتكر الذي لم يع قدرة الله، فجاء لهدم الكعبة. ولو أنّه فهم مكانة هذه البلاد وأهمّيّتها له وللعالم لما تجرّأ عليها بالإثم والعدوان.
وتفتخر بلادنا بوجود ملايين المستفيدين، على مرّ العقود، من خيرات هذه البلاد التي أنعم الله عليها بنعم كثيرة، هي من فضل الله علينا وعلى النّاس. وليس في قواميس السّعوديّين والخليجيّين والعرب والمسلمين مفردات الأذى والضّرر والاحتكار، ولكنِ الإحسان وعمل الخير والتّعاون مع النّاس بصرف النّظر عن أديانهم ولغاتهم وبلدانهم، ما داموا يحفظون الودّ، ويحسنون المعاملة، ولا يحاربوننا، ولا يتدخّلون في شؤوننا، ولا يعتدون على ثوابتنا ومرجعيّاتنا، فقد أمرنا الله أن نحسن إليهم ونتعاون معهم ونحترمهم إذا احترمونا، ولهذا تخرج مليارات التّحويلات شهريًّا من دول الخليج لكلّ العالم بدون منّة أو أذى، ولم يزدها ذلك إلّا محبّة وتقديرًا لكلّ من عمل في مصانعنا ومؤسّساتنا ومتاجرنا وبيوتنا، وهذا جزء من رسالة هذه البلاد ودورها الكونيّ؛ الرّوحيّ والمادّيّ، لهذا اختارها الله أن تكون في قلب العالم، وقدَّرَ لها أن تكونَ قاحلةً وقاسية، {ويضرب الله الأمثال للنّاس لعلّهم يتفكّرون}.
** **
الأمين العام - المجلس الدولي للغة العربية