محمد سليمان العنقري
تنشر يومياً عشرات التقارير عن قطاع الطاقة عالمياً من بيوت الخبرة وكبرى البنوك والمؤسسات المالية وتركز غالبيتها على أسعار النفط ومستقبلها بالمدى القريب والمتوسط، كما ينشط محللون مستقلون بوسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي في اصدار تعليقاتهم على حركة الاسعار ومستقبل صناعة النفط، واذا تم جمع السيناريوهات التي نشرت خلال الاعوام الخمسة الاخيرة فإن ما يحكم غالبيتها التناقض الواضح في توجهات الاسعار وقد يكون لذلك مبررات نسبية، بما ان جزءا من اهم المؤثرات بالسعر هو العقوبات التي فرضت على روسيا احد اكبر منتجي ومصدري النفط بسبب حربها على اوكرانيا لكن بالمقابل فإن التباين الكبير في ما تبقى من مؤثرات على صناعة النفط ومستقبلها هو ما يلفت النظر، ففي الوقت الذي كان كثير من تلك البنوك العالمية تضع توقعات لنهاية عصر النفط وتراجع استخداماته واحتمال هبوط سعره دون 50 دولاراً خلال سنوات قليلة من تاريخنا الحالي بل ان بعضهم كان يتوقع ان تبدأ هذه المرحلة في عام 2020 لكن ما حدث هو العكس، فبعد تراجع قسري على طلب النفط نتيجة الاقفالات الكبرى بالاقتصاد العالمي لفترة قصيرة بسبب جائحة كورونا عاد الطلب ليرتفع بتسارع كبير ووصل لمستويات ما قبل الجائحة، ثم جاءت حرب اوكرانيا لتشعل الاسعار بسبب الخوف من نقص بالمعروض، ثم بدأ الحديث عن خلل في مزيج الطاقة لدى كبار المستهلكين في اوروبا واميركا وضرورة اعادة النظر في استراتيجياتهم للطاقة وهيكليتها.
فلقد اصبحت مع هذه الاحداث المتسارعة اغلب التوقعات تائهة ما بين المؤثرات السياسية والعوامل الاساسية اقتصادياً التي لها التأثير الاطول على اسعار النفط ومستقبل صناعته، ففي الوقت الذي يعطيك احد البنوك الكبرى سيناريوهات عديدة في تقرير واحد ويتوقع هبوط الاسعار لاعتقاده بتراجع الطلب نتيجة تباطؤ محتمل لنمو الاقتصاد العالمي فإنه يضع ايضا احتمالاً بارتفاع الاسعار اذا توسعت العقوبات على روسيا فيما يخص صادراتها النفطية وقد يكون ذلك منطقياً لكن ان يتم اغفال ان فائض الطاقة الانتاجية عالمياً منخفض قياساً بنمو الطلب على المدى المتوسط والبعيد وان العالم اذا عاد لتسريع ورفع معدلات النمو الاقتصادي وهذا امر متوقع بعد معالجة ملف التضخم نتيجة تعطل سلاسل الامداد بالدرجة الاولى، فإنه سيواجه بصدمة نمو الطلب على الطاقة عموماً والنفط خصوصاً، فإن ذلك يضعف مهنية تلك التقارير فالمتعاملون بالاسواق يشترون للمستقبل ولذلك تجد التجار بالسوق اكثر واقعية في تعاملاتهم من التقارير التي تتدفق على وسائل الاعلام يومياً، اما البنوك التي تنظر لاسعار النفط بان لا اتجاه لها الا الارتفاع فهم ايضاً يركزون بنسبة كبيرة على الاخبار اليومية التي ترشح من غرف السياسة وارض المعركة في الحرب الدائرة بين روسيا واوكرانيا ويضعون اسعارا بعيدة جداً عن المستويات الحالية وصل بعضها الى 380 دولارا للبرميل في حال توقفت امدادات النفط الروسي والغاز لاوروبا فاغلب التقارير اصبحت كأنها تكتب في قاعات المزادات ما بين من يتوقع الارتفاع او الانخفاض دون التفات لمستقبل السوق والعوامل الاساسية الاقتصادية التي تتحكم فيه للسنوات القادمة.
لكن العوامل التي يمكن النظر لها بواقع سوق النفط هو ما تصرح به دول اوبك التي اثبتت صحتها ودقتها، وحذرت منذ سنوات من خطورة تراجع الاستثمار في استكشاف وانتاج النفط والغاز وهو التوجه الذي اخذته الدول الغربية تحديداً مما ادى لعزوف شركاتها النفطية عن الاستثمار بالوقود الاحفوري، وتراجعت بذلك الاستثمارات بحوالي 40 بالمائة قياساً بما هو مطلوب عالمياً لبقاء العرض أعلى من الطلب وبالعودة لما يصدر من توقعات عن اسعار النفط فإن ما يبرز في الميدان الاعلامي هو اصوات المحللين الافراد المستقلين، فغالبيتهم لا تخلو قراءاتهم من الامنيات وليست الحقائق، كما ان بعضهم وتحديداً من المحللين ذوي الاصول العربية ينشرون توقعاتها وقراءاتهم باللغتين العربية والانجليزية وتجد تناقضا واضحا في ما يعبرون عنه باللغتين؛ فبالعربية تجده يعزز من نظرة دول اوبك والخليج تحديداً لصناعة النفط وان الاسعار ستبقى مرتفعة بينما باللغة الانجليزية فهو يخاطب الناطقين بها ممن يعيش بينهم بما يتمنونه من تراجع لاسعار النفط، وكثير منهم كان يجزم يقيناً ان اسعار النفط لن تتجاوز مائة دولار وان ذلك اصبح من الماضي الا ان السوق خالفهم وكانت الاسعار متجهة لهذا المستوى قبل ان تبدأ حرب روسيا واوكرانيا نتيجة لعوامل اساسية، ولو سألوا لماذا خالف السوق توقعاتهم فإنهم سيذكرون الحرب كسبب بينما هي مجرد منقذ لهم لتبرير خطأ توقعهم فصناعة النفط ليست بهذه السهولة او البساطة لقراءة مستقبلها ومثل هذه التناقضات والتفسيرات الخاطئة لحركة الاسعار لها تاثير سلبي كبير على قطاع الاعمال الذي قد يدخل في دوامة من الارتباك في تقدير تكاليف الطاقة عليه، خصوصا اذا كانت مشتقاتها ومنتجاتها تدخل في صميم مدخلات الانتاج لديهم فيما لو تأثروا بتلك التوقعات المتناقضة.
في صناعة النفط ومستقبلها افضل من تقرأ لهم هم المستثمرون فيها من كبرى الدول المنتجة للنفط والغاز فهم من يضخ أموالاً ضخمة لزيادة طاقتهم الانتاجية ولن يقدموا على هذه الخطوات الا بتقديرات واقعية لنمو الطلب وحجم الاستهلاك والاحتياج عالمياً، كما ان الممولين لهم لن يوافقوا على طلبات تمويلهم الا وفق دراسات دقيقة لمستقبل الاقتصاد العالمي ونمو الطلب فيه على السلع، ومن أهمها الطاقة كما ان تحذيرات الدول المنتجة للنفط من اعضاء اوبك هي ما ثبت صحتها وما بدا العالم يعيشه ويستشعر خطورته بأن الطلب على النفط سيتصاعد بنسبة كبيرة حتى ما بعد 2040 وان عدم نمو المعروض بالقدر المناسب قد يجعل الاسعار مرتفعة لزمن طويل وليس لشهور مع احتمالات بتقلبات الاسعار لكن الاتجاه سيبقى صاعداً.