د. تنيضب الفايدي
قرية تاريخها موغلٌ في القدم واشتهرت لوقوعها على طريق درب الزبيدة، وما زال العمق موجوداً بهذا الاسم، حيث يقع بين آثار السليلة ومنطقة مهد الذهب، وتعتبر بلدة العمق بوابة لمهد الذهب، وقد اكتسبت مكانة مهمة لدى المؤرّخين والرحّالة.
الموقع
تقع بلدة العمق في أقصى عالية نجد ويعتبر العمق أحد مراكز محافظة مهد الذهب التابع لإمارة منطقة المدينة المنورة وتبعد عن المحافظة بـ60 كلم جهة الشمال.
العمق في عيون المؤرِّخين
العُمَق بفتح الميم هو النطق الصحيح، ونظراً لتاريخها الموغلة في القدم فقد ذكرها أكثر المؤرِّخين، يقول الحموي في كتابه (معجم البلدان): «عُمَق: بوزن زُفَر: علم مرتجل على جادة الطريق إلى مكة بين معدن بني سليم وذات عرق، والعامة تقول العُمُق، بضمتين، وهو خطأ، قال الفَرّاء : وهو دون النّقرة، وأنشد لابن الأعرابي وذكر ناقته:
كأنها بين شَرَوْرَى والعُمَقْ
وقد كَسَوْن الجِلَد نضْحاً من عَرَقْ
نواحةً تلوى بجلبابٍ خَلَقْ
ويقول ابن رستة في كتابه (الأعلاق النفيسة): «منزل فيه أعراب والماء من البرك والآبار». وقد حدد المسافة بين السليلة والعمق بأنها 21 ميلاً. ويقول الحربي في المناسك: «العمق لبني سليم وبه قصر ومسجد وبئر تعرف بالخضراء، من عمل المنصور، وبئر تعرف بالروحاء من عمل البرامكة.......،». ويضع الحربي المسافة بين السليلة إلى العمق على 18 ميلاً، وعلى 22 ميلاً إلى معدن بني سليم.
العمق ودرب زبيدة
العمق إحدى المحطات الرئيسية لدرب زبيدة، نسبة إلى زبيدة زوج الخليفة هارون الرشيد، حيث اهتمت بهذا الطريق فأقيمت على امتداده المحطات والاستراحات ورصفت أرضيته بالحجارة في المناطق الرملية وزوّدت بالمنافع والمرافق اللازمة من آبار وبرك وسدود، وهكذا خلدت ذكرها على مرّ العصور. وزبيدة : هي أم جعفر بنت جعفر بن المنصور أبي جعفر العباسية، والدة الأمين محمد بن هارون الرشيد، وقد قيل: لم تلد عباسية خليفة سواها، وكانت عظيمة الجاه والمال، ولها آثار حميدة في طريق الحج، وجدّها المنصور هو من لقبها زبيدة لبضاضتها ونضارتها، أنفقت في حجها بضعة وخمسين ألف درهم، وكان في قصرها من الخدم والحشم والآلات والأموال ما يقصر عنه الوصف، من جملة ذلك: مئة جارية، كل منهن تحفظ القرآن، توفيت سنة ست وعشرين ومئتين، وهي التي سقت أهل مكة بعد أن كانت الراوية عندهم بدينار, قال الثعالبي: كانوا يقولون لو نشرت زبيدة ضفائرها ما تعلقت إلا بخليفة أو ولي عهد، فإن المنصور جدها، والسفاح أخو جدها، والمهدي عمها، والرشيد زوجها، والأمين ابنها، والمأمون والمعتصم ابنا زوجها، وأما ولاة العهد فكثير.
وذكرت العُمق ضمن المسافات المحددة لطرق الحج مثل قول الحربي: «ومن العمق إلى المعدن اثنان وعشرون ميلاً». والبريد السادس وأربعين قبل الصفحة بأربعة أميال، والصفحة على عشرة أميال من المعدن، عند المتعشا، وهي بركة تسمى الصفحة، وهي صفاح شرورى، مربعة، ويقال لهذا الموضع بهوى وادٍ حسن واسع على ستة أميال من العمق، يسير بين جبلين، يسمى أحدهما شرورى وهو الجبل الذي فيه الجن، وتسير في أرض ليّنة».
كما ذكر الهمداني العمق في كتابه (صفة جزيرة العرب) وهو يصف طريق الحاج ومسمياته ومسافاته بتقدير الأميال قال: ما نصه: «ومن أخذ الجادة من مكة إلى معدن النقرة فمن مكة إلى البستان 29م ومنه إلى ذات عرق 24م ومنها إلى الغمرة 20م ومنه إلى الأفيعية 28م ومنها إلى حرة بني سليم 26.5م منها إلى العمق 22م ومنه إلى السليلة 13 ميلا ونصف ميل ومنها إلى الربذة 23م ومنه إلى الماوية 26م.
وقد ذكرت قرية العمق على طرق الحج كثيراً مثل قول أحمد بن عمرو:
ثم توجهنا نريد العُمَقا
مَنزِل صدقٍ لم يزل مرتفقا
ببئر ماء طاب منها المستقى
والعيس تسري في الظلام حزقا
وراكبوها يصلون الأرقا
والنور في القبة يجلو الأفقا
من حرَّة ترى العطايا خلقاً
أحيَت لمن لبّا وحجّ، والطرُقا
أجرت لهم ماءً رواء غدقا
فالله يجزيها بذخر وبقا
كما ذكر العمق في شعر آخر:
فصبح الناس بني سليمِ
من بعد سير ليلةٍ ونومِ
ورحلوا من يومهم نحو (العُمقْ)
في طرُقٍ آنس بهنّ من طرُق
حطّ به الركبان أكوار الإبلْ
يومهم ذاك إلى وقت الرحلْ
وهو مكان خصبه معروف
ساكنه ما غاب عنه الريف
كما جاء ذكر العمق في الأبيات التي أنشدها أبو جعفر أحمد بن محمد الضحكاك الكوفي:
لا بدّ أن يبلغ فيه المجهد
و(العمق) للمطي قد يعود
والهائم المشتاق ليس يرقد
وكم حسا (السليل) منا مؤبد
حتى إذا ما سدّد المسدّد
ودعها (المعدن) المدود
بعض الآثار في العمق
وفي العمق تتعدد الآثار كبقايا المباني والبرك حافظت عليها ذاكرة الأرض، ومن تلك الآثار:
بركة العمق
تقع في الناحية إلى الجنوب الغربي من بلدة العمق القديمة، أيمن الطريق المتجه إلى المهد، والبركة شبه مدفونة الآن، ولا يظهر منها سوى المعالم الجدارية من جهاتها الشمالية والشرقية والغربية، ويظهر حفار البركة مرتفع على جهتها الشمالية وركنها الشمالي الغربي وتتغذى البركة بمياه وادي العمق من الجهة الجنوبية الغربية وتبلغ مساحتها التقريبية 30م×40م.
بركة مهزول «البريكة»
تقع البركة في منطقة مستوية إلى الشمال من العمق بحوالي 13كلم، ويغذيها وادي مهزول، والبركة مستطيلة الشكل ومساحتها التقريبية 33.5م× 8.51م. وهي مندفعة تماماً، يأتيها الماء من الجنوب الشرقي، والمصب متصل بجدارين منفرجين طول كل منها حوالي 100م، ليسهل دخول مياه الأمطار إلى البركة، والبركة مدعمة جدرانها من الخارج بأكتاف نصف دائرية بينما توجد دعامات دائرية خارجية في زواياها الأربعة.
بئر العودة
هي أول بئر من جهة الشمال، قطرها حوالي 11م، وعمقها في الوقت الحالي حوالي 20م، جلها منقور في الصخر ومطوية من الأعلى بحجارة بازلتية سوداء تتفاوت أحجامها وأشكالها، يأتيها الماء من مفيض وادي العمق إضافة إلى مياه الأمطار التي تسيل من السفح الغربي للجبل الأصفر،والبئر لازالت حسنة عامرة بالمياه العذبة، وتظهر بوضوح آثار مضارب الرشاء على صخور البئر السطحية.
غار زبيدة
موقع أثري ينسب إلى السيدة زبيدة زوج الخليفة العباسي هارون الرشيد، يقع جنوب العمق أيمن الطريق المتجه إلى المهد، والغار عبارة عن تجويف طولي منقور في باطن جبل صخري يمتد من الشرق إلى الغرب مسافة عشرين متراً واتساع أرضيته حوالي ثمانية أمتار. تطل فتحته على جهة الشمال، مما جعله محمياً طوال اليوم من أشعة الشمس المباشرة، يأتيه الهواء البارد من جهته الشمالية الغربية مما جعل حرارته معتدلة حتى فصل الصيف القائظ.
بئر حمزة
تبعد إلى جنوب عن بئر العودة بحوالي 700 متر، قطرها حوالي 10 أمتار، وهي مطمورة ولم يبقَ ظاهر من جدرانها إلا متران.
والحربي ذكر آبار العمق حيث يقول: «في العمق بئر تعرف بالخضراء من عمل المنصور، وبئر تعرف بالروحاء من عمل البرامكة، وبئر تعرف بمحمد بن الفضل التاجر وبئر تعرف بأبي الطاهر الزبيري، وبئر السددرة، ضيقة الرأس، وبير الحمام، وذات القريتين، وبئر العلم، وبها بركة نائية عن الطريق مربعة، تعرف بنعيم».
وذكر الحربي أيضاً: بأن يقطين احتفر بئر العمق من ماله الخاص فخرجت أغلب بئر عن غيرها من الآبار، وقد حاول المهدي تعويض يقطين على ما تجشمه من نفقات، فأمر له بما أنفق عليها وتسمية هذا البئر باسمه إلا أنه أبى ذلك وأخبره بأنه ما فعل ذلك إلا ابتغاء مرضاة الله عز وجل، فسأل المهدي أن يجعل له حظاً من نفقات أجرها، فجعل له الثلث.
ومن الآثار في العمق بقايا القصور والمنازل في كافة أرجاء البلدة القديمة، منها: بقايا قصر كبير إلى الشرق من البركة، والذي يبدو منه بقايا الجدران الحجرية، وهو مستطيل الشكل أطواله حوالي 50×60 متراً، ويبلغ سمك الجدران حوالي المتر، وهي مبنية من الأحجار البازلتية والجرانيتية، ويلحق به من الجهة الشمالية الغربية مسجد صغير تبدو بوضوح أسس ستة من أعمدته الداخلية، وتظهر البيوت السكنية على هيئة وحدات متصلة أو منفصلة أحياناً أخرى.
ومن الآثار في العمق الأعلام (أعلام الطريق) ومنها
- علم في شمال العمق وهو عبارة عن كومة من الأحجار يصل قطرها إلى 3 أمتار، ذو قاعدة دائرية شبه منتظمة، ويوجد آثار للجص الذي استخدم في بناء القاعدة، ويصل ارتفاعها إلى حوالي 1.5 متراً، ويقل حجمه كلما ارتفع للأعلى بحيث يصبح ذا شكل مخروطي.
- علم في جنوب العمق على بعد حوالي 15كلم جنوب جبل صايد وهو عبارة عن بناء من حجارة غير منتظمة الأحجام، مربع الشكل طول ضلعه 2.5م، وارتفاعه يقارب المترين.
مركز العمق
تبلغ مساحة مركز العمق نحو 2815.55كم2، ويقدر عدد سكانه بحوالي 3666 نسمة ويضم في نطاق خدماته 19 قرية وهجرة. ويعتبر المركز من أحد المراكز المؤهلة لقيام نشاط تعديني ورعوي وسياحي مشكلاً مع كل من النطاق الإشرافي للمهد ومركز ثرب وحدة متكاملة في مجال النشاط التعديني والسياحي.
وتضم العمق مجموعة من الجبال من أشهرها: جبل صايد، هضب الشرار، الجبل الأصفر، جبل المرقاب، جبل أظلم، جبل الشهباء. وتوجد في جبالها خامات النحاس،كما يتوافر خام البازلت والفلسبار والفلورايت، بالإضافة إلى وجود الرخام بمركز العمق.
ومن أهم الأودية التي تخترق نطاق مركز العمق «وادي مهزول»
يسيل من شرق البلدة، متجهاً شمالاً، ويرفد وادي الشعبة شمال العمق. وادي العمق: يسيل من وسط البلدة، متجهاً شمالاً وهو المصدر الرئيس الذي يغذي آبار العمق ذات المياه العذبة. وادي المرقاب: يسيل من غرب البلدة ويتجه شمالاً ويصب في وادي الشعبة. وادي الركو: يتجه من الجنوب إلى الشمال بمحاذاة العمق من الغرب ويصب في وادي الشعبة.