عبد الاله بن سعود السعدون
يذكرنا تاريخ بغداد بأن الخليفة العباسي هارون الرشيد كان يلاطف الغيوم ببرقها ورعدها بأنك أينما أمطرت فريعك وخيرك سيعود لخزينة الخلافة ببغداد، وفي زمنه أيضاً كان يطلق على العراق بأرض البساتين وبلاد السواد لخضرة أرضه الشديدة وغطاء الزراعة لمعظم أرضه.وهكذا كان الرفاه الزراعي في أرض الرافدين، ولو عدنا إلى القرن التاسع عشر حتى ظهور إنتاج البترول في الجزيرة العربية فإن العراق كان موقع جذب الهجرة العربية لأرضه لغنائه وتوفر جميع صنوف المنتجات الزراعية، وكان المحطة الأولى لتصدير الغذاء للجزيرة العربية..!
حين إعلان المملكة العراقية في عام 1921م أعطت الحكومات المتتالية في ذلك العهد الزاهر أهمية قصوى للأمن الغذائي حتى أدركت مرحلة الاكتفاء الذاتي في جميع صنوف المنتجات الزراعية وفي أحصاء 1957م بلغ عدد النخيل بكل صنوفها المميزة 30 مليون نخلة في البصرة وحدها، واحتل العراق المركز الأول عربياً في إنتاج الحبوب (الحنطة والشعير والرز) حتى إن الشعير والتمور العراقية تصدران إلى الدول الأوروبية، وأدرج الشعير العراقي في بورصة هامبورج لجودته وأسس أول مصنع لتعليب التمور بصناديق خشبية جميلة وكساؤها بالبسكويت المحلى وتصديرها لجميع أنحاء العالم من ميناء البصرة تحت مسمى تمور أصفر.
مشكلة التصحر التي مهدد بها العراق في المستقبل القريب جداً تعود بالدرجة الأولى إلى قلة الأمطار الشتوية ونقص كمية المياه المنحدرة في دجلة والفرات من تركيا وإيران، فالأولى أكثرت من إنشاء السدود على الفرات ودجلة وتخزين كميات هائلة من مياههما مما سيؤثر بصورة سلبية على دولتي سوريا والعراق، أما إيران فقد حولت جميع الأنهر والروافد التي كانت تصب في دجلة وشط العرب إلى داخل البلاد وأنشأت خزانات وسدودا ضخمة لحفظ المياه وعدم استجابتها للدعوات التي تعلنها وزارتا الزراعة والموارد المائية، ولا تدرك مدى الضرر الذي سيلحق بالشعب العراقي وتصرف دولتي الجوار العراقي فقد اقترفتا مخالفة صريحة لاتفاقيات الأنهر المتشاطئة بمشاركة الضرر بين دول المنبع والممر والمصب ولن أنسى في عام 1972م المؤتمر الصحفي الذي حضرته بصفتي عضوا في نادي المراسلين الأجانب في أنقره، فقد أعلن رئيس وزراء تركيا آنذاك بأن حكومته ستنشئ عددا من السدود على نهر الفرات، وأنها أي الحكومة التركية تدرك بأن الدول المشاركة في مياه دجلة والفرات تترك المياه تذهب للخليج العربي دون أن تنظم كيفية استخدامها والاستفادة منها في بناء السدود، واتباع طرق بدائية في الري الزراعي، وسيأتي اليوم الذي يندمون على ذلك، ويكون سعر لتر الماء أغلى من لتر البترول!! وجاء الرد العراقي الحكومي آنذاك سريعاً بتهديد تركيا بغلق جميع المنافذ الحدودية التجارية وإيقاف تصدير البترول عن طريق الموانئ التركية والترحيب بالثوار الأكراد بفتح الحدود لهم ولم تمض أربع وعشرون ساعة حتى تدفقت المياه بزيادة في كميتها في دجلة والفرات، أما اليوم فللأسف بلغت شح المياه في الرافدين إلى درجة ظهور الجزر في مجراها ويمكن للأطفال أن يعبروا النهرين مشياً لانخفاض عمق المياه لنصف متر، ناهيك عن الأهوار في جنوب العراق مثل الحمار والحويزة فقد أصبحت أرضاً صبخاء لانحسار المياه عنها، وهاجر سكانها للمدن بعد أن هلكت ماشيتهم من غنم وجاموس، وكان يطلق على هذه الأهوار في القرن العشرين بندقية العراق، وتم إدراجها آنذاك في اليونسكو من المعالم المميزة سياحياً في العالم؟؟!! من أجل إعادة مستويات المياه لدجلة والفرات وشط العرب لوضعها الطبيعي لابد من تنشيط ملفات علاها التراب في وزارتي الزراعة والموارد المائية العراقية بإشعار الجارتين تركيا وإيران بأن العراق سينقل موضوع مبدأ المشاركة في الضرر المنصوص عليه في اتاقيات تقاسم المياه بين الدول المتشاطئة، وذلك بتقديم شكوى للمحكمة الدولية في لاهاي، وأيضاً نقل القضية لمجلس الأمن وفتح خطوط دبلوماسية جدية تعتمد على التذكير أولاً بالميزان التجاري الذي يميل بستة عشر مليار دولار لصالح الجارة إيران وأربعة عشر مليار دولار سنوياً لصالح الجارة تركيا..
وأيضاً ملف الغاز وخطوط البترول العراقي المصدر عن طريق الموانئ التركية وإعادة النظر في اتفاقية الربط السككي بين منفذ الشلامجة والبصرة وهناك ملف أمني مهم يؤثر على الأمن القومي التركي هو مليشيات حزب العمال الكردستاني الإرهابية والاتفاق مع تركيا لإخراجهم منأراضي إقليم كردستان وجبال قنديل بالقوة العسكرية المشتركة بين الدولتين، وستكون ورقة قوية لصالح الحكومة العراقية.... تنفيذ كل هذه الملفات الساخنة ينتظر إرادة سيادية عراقية قوية ومستقلة لتنفيذها وبعدها تعود المياه النظيفة من دول المنبع وينتهي التصحروالعطش ويعود العراق أخضر يأتمن على أمنه الغذائي بازدهار زراعته، وهذا ما يتمناه العربي قبل شقيقه العراقي وتنتهي مأساة العواصف الترابية والعطش والأوبئة المستوطنة الناتجة عن شح المياه.