عبدالوهاب الفايز
الشعوب العربية لديها إرث ثقافي وحضاري تفتخر به، وهو جزء من تراث الإنسانية، ولدينا قول ومثل وحكم في كل أمور الحياة نبعت من مرتكزات قيمنا، والظروف المعيشية التي تحيط بنا، ومن ثقافتنا وتراثنا الراسخ الثري. ومن تلك الأقوال: (صديقك من أصدقك القول)، وهو الذي أضعه عنواناً لهذا المقال الذي يخاطب الإدارة الأمريكية قبل زيارتها المرتقبة إلى المملكة العربية السعودية ولقائها بعدد من القادة العرب.
أيها الأصدقاء، ثمة عددٍ من الأمور الأساسية التي أصبحت مصدر التقاء وافتراق في العلاقات الدولية المعاصرة والمستقبلية. وستكون قضايا مزعجة ومفتوحة للتفسيرات والمفاهيم الواسعة لمن يتعامل معها لأنها تمس سيادة الدول، وتمس وجودها ومصالحها العليا، ومن هذه الأمور: مفهوم الأمن الوطني، وتجارب وممارسات الديموقراطية، وحق الدول في تحديد أولويات سياستها الخارجية حسب الظروف الجيوسياسية التي تراها تخدم علاقاتها ومصالح شعبها، وأيضاً كيف ترى أهمية (الاستدامة والوضوح) في علاقتها مع الحلفاء والأصدقاء.
بالنسبة لنا في المملكة من الأمور الهامة لكل مواطن، كما هو الحال لمواطني جميع الدول، هو قوة الأمن الوطني والاستقرار السياسي والاجتماعي. هذا الأمر تضعه الدول في أولوياتها، فالأمن الوطني لا يقبل العبث أو التنازلات أو المساومات، وفي حالات كثيرة رأينا الدول، التي تضع نفسها في قائمة الدول الديمقراطية مثل أمريكا، تستدعي قواتها الخاصة وجيشها لكي تبعد المتظاهرين من الشوارع، وتصدر القرارات المقيدة للحريات، وتتوسع في الاعتقالات وبناء السجون (مثلاً.. أبو غريب، غوانتانامو) لكل من تعتقد أنه مصدر تهديد للأمن الوطني.
وحماية الأمن الوطني يحظى بهذه الأولوية لدى الحكومات لأنه مطلب شرعي وشعبي، فالعمران ومعاش الناس لا يستقيمان مع الفوضى. الغريب في الأمر والذي يستحق التأمل هو أن حماية الأمن في الدول الغربية يكون أمراً ضرورياً ويشرع له استخدام القوة وعنف الدولة، بينما تعارض حماية الأمن خارج نطاقها!
رأينا موقف الدول الغربية من أحداث الربيع العربي، كانت تدعم وتشجع على العصيان المدني والتمرد، لماذا؟ لأن الهدف كان تخريب الدول وتفكيكها لتكون طيعة سهلة لمتطلبات مشروع الشرق الأوسط الكبير. لذا، بالنسبة لنا في المملكة لن يكون مقبولاً من صديق أو شريك أن يضع شروطاً أو مطالب تمس مقومات واعتبارات الأمن الوطني، فهذا الأمر يحتاج الحكمة والتعامل الذكي، الذي لا يحرج الحكومات أمام شعوبها ويقدمها بموقف ضعيف في قضايا الأمن الوطني، فهذا إخلال بمتطلبات العقد الاجتماعي.
أما بخصوص الديموقراطية، فالذي نعرفه أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين الأمن والاستقرار وقضية استيراد مفاهيم الديموقراطية والحريات الغربية للمجتمعات الأخرى. فكل مجتمع يحدد الخيارات الأنسب لإدارة الحكم لمجتمعه بما يضمن تحقيق أمنه ونماء وطنه. وشعارات الديمقراطية في السنوات الأخيرة اختلت موازينها، بالذات مع دخول جماعات الضغط والمتنفذين مالياً ووسائل التواصل الاجتماعي في اللعبة السياسية واتضاح خطورتها على توجيه الناخبين والتأثير على خياراتهم. هذه الوسائل غيّرت طبيعة المشاركة في الديموقراطية وفتحت المجال للتلاعب بنتائج الانتخابات وتزويرها النفسي والفكري.
لذا لا يجدي تقديم النموذج الغربي للديموقراطية والمطالبة بالانتخابات، فكل دولة لها قيمها وظروفها. ثم إن الوصول إلى الحكم الرشيد، وهو الغاية، قد يأتي عبر مسارات أخرى تراها الشعوب انطلاقًا من تجاربها. وهنا نتذكر ونرى الفشل الذريع لمشروع فرض الديمقراطية في العراق وليبيا واليمن وأفغانستان ودول أمريكا اللاتينية وغيرها من الدول!
أيها الأصدقاء، بخصوص أولويات العلاقات والشراكات الخارجية، فالمصالح العليا لكل دولة هي التي تحدد خياراتها وعلاقاتها، وأيضاً تقررها الظروف الجيوسياسية المتجددة بالذات في الظروف الراهنة لعالمنا المعاصر الذي يشهد تبدلات وتحولات في مراكز القوة السياسية والاقتصادية. كل دولة تعرف كيف تقرر مصالحها ومسارات سياستها الخارجية، ولا (يمكن أن توقع على بياض لأية دولة أو تكتل)، لأن مرحلة السيادة الوطنية هي الغالبة، فعصر الاستعمار والهيمنة انتهى ولا تتقبله الأجيال الجديدة التي تتلقى تربية وطنية تُعرفها بتاريخها وبمصالحها، وتحدد لها تطلعاتها الوطنية.
وتطلعات الأجيال الجديدة هي التي تجعل كل دولة تهتم بأمنها وتهتم بمصالحها الخارجية. مسؤوليتها تجاه الأجيال الجديدة تُلزمها البحث عن بناء علاقات التعاون مع الشركاء الذين يمكن الثقة بهم، وممن تتوفر لديهم مقومات الاستدامة في المبادىء والاستراتيجيات. هذه ضرورية بالذات للدول المشغولة ببناء مقومات التنمية المستدامة لبلادها، فهذه يقلقها مشاريع الدول الكبرى التي تسعى إلى الصراع لأجل الهيمنة والسيطرة، والتي هاجسها الأول هو: تدمير الخصوم والتفوق عليهم، ولأجل هذه النفعية تضع الموازين للأصدقاء والحلفاء: (معي أو ضدي!).
والحكيم يسأل: لماذا ندخل في مشاريع الدمار؟ هذه سياسات وتوجهات لا منتصر فيها. الآن نرى أوروبا التي دخلت في مشروع دمار روسيا والصين تتحمل المعاناة وتدفع الضريبة القاسية في اقتصادها وتراجع عملتها، وفي أمنها واستقرارها المهددين، وأحزابها السياسية تتساقط، بالذات الرؤوس السياسية. وأول هؤلاء بورس جونسون، والآن الرئيس الفرنسي مكرون يواجه صعوبة في البرلمان، وألمانيا أقوى اقتصاد أوروبي تعاني.. والقادم لهم أعظم وأدهى.
ثمة قضية أخرى مزعجة، وهي أن أمريكا وحلفاءها الغربيين وضعوا في أولويات سياستهم الخارجية: التفوق على الصين، مواجهة العدوان الروسي، سيادة القيم الأمريكيه الليبرالية الجديدة (بالذات الشذوذ الجنسي).
نوايا الهيمنة هذه لها تبعاتها في الشرق الأوسط، فأمريكا ترغب أن تكون القائدة، وأن تكون هي وإسرائيل محور التفاعل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، ففي كل هذا، أين المصالح للشعوب العربية؟
المقلق أن أمريكا في حالة استقطاب داخلي يتوسع مع تعدد جبهات الخلاف على قضايا حيوية تقسم المجتمع الأمريكي، وآخرها قضية الإجهاض. هذه تجعل الأمة في حالة أقرب إلى الثورة. هذا يضع أصدقاءها وشركاءها في حيرة، فلا يعرفون كيف يتعاملون معها. وهذا الوضع يقلق رجال الدولة والسياسيين والمفكرين الأمريكان أنفسهم، وأصحاب المدرسة الواقعية في السياسة الخارجية يرون أن الأولى لأمريكا هو التركيز على إصلاح الأوضاع الداخلية وبناء الدولة قبل أن تنهار وتنتهي.
أخيرًا، أيها الأصدقاء الأمريكان، نأمل أن لا توجهوا سياستكم الخارجية وفقاً للصراعات بين الحزبين الرئيسين لديكم. فالنتائج لمثل ذلك ستكون عكسية وتضعف مكانة أمريكا الجيوسياسية في المنطقة. نتمنى أن نرى أمريكا الواقعية.. وليس الساعية إلى الهيمنة على حساب مصالح الأصدقاء والحلفاء.