اللواء الركن م. د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
سماحة الإسلام:
قطعًا.. كلنا يدرك يقينًا إن الإسلام عُرِف أنه دِيْن تسامح وأُخوة وإنسانية، وحضٍّ على الخير وتنفير من الشر، وسبيله إلى الدعوة الحوار الهادئ العاقل المنطقي، والحكمة والموعظة الحسنة، امتثالاً لأمره عزَّ و جلَّ: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (125) سورة النحل. وثمَّة كثيرٌ من الآيات القرآنية العظيمة والأحاديث النبوية الشريفة التي تؤكد تلك المعاني السامية، محترمة حق البشر في الاعتقاد، وضامنة حرية الفكر ومبدأ العدالة المطلقة؛ فقد قال سبحانه وتعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (256) سورة البقرة. وقال جلَّ من قائل: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } (118) سورة هود. وغير هذا كثير مما يؤكد سماحة الإسلام ورحمته وعدله وحرصه على الدفع بالحسنى.
فقد شهدت أرض الكنانة على وجه الخصوص، موطن ظهور تلك الجماعات المتطرفة التي ولدت من رحم جماعة الإخوان المسلمين، عدلاً وسماحة منقطعة النظير بين المسلمين والأقباط، ولاسيَّما في المناسبات الدينية، إذ قيل إن الأقباط كانوا يبنون مساجد المسلمين، وبالمقابل كان المسلمون يعيدون بناء كنائس الأقباط؛ بل كان أبناء هذه الطائفة يتعلمون في مدارس تلك، والعكس صحيح. وأكثر من هذا، حتى في الأزهر الشريف، كان للأقباط رواق خاص بهم يتلقون فيه العلوم الشرعية والمنطقية. بل من بين الأقباط من حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب، واستشهد به في أحاديثه ليثبت صحة وجهة نظره استنادًا إلى كتاب الله عزَّ و جلَّ. وارتدت نساء الأقباط الحجاب، مثل نساء المسلمين.. فشريعة الإسلام تنهي عن الفحشاء والبغضاء، وترى الناس في المعاملة سواء.
ظهور تنظيم الإخوان المسلمين:
ليس الغرض من هذا المقال دراسة تاريخ نشأة تنظيم الإخوان المسلمين، بل هو إلقاء نظرة سريعة على فكرهم المتطرف، وأهدافهم السياسية الحقيقية التي أشغلوا بها الناس، وأقاموا بها الدنيا ولم يقعدوها. ولهذا انتقل سريعًا لأقول: ثم فجأة تظهر حركة الإخوان المسلمين عام 1347هـ/ 1928م، التي قيل إن أحد أسباب ظهورها هو ظهور حركة التبشير. وعلى كل حالٍ، أيًّا يكون السبب، فقد عصف هذا التحزب البغيض وتلك العنصرية المقيتة في العقيدة، بكل تلك الصفحة الناصعة مما كانت تعيشه أرض الكنانة من تسامح منقطع النظير؛ بل سرت العدوى إلى معظم بلدان العالم العربي نتيجة تفريخ جماعة الإخوان المسلمين لحركات دينية عديدة متطرفة، عادت بالمجتمعات القهقري، معتمدة المغالاة والتزمت والجمود الفكري والانغلاق.
وللأسف الشديد، نجحت إسرائيل والغرب برئاسة أمريكا في غسيل مخ أفراد تلك الجماعات لتؤسس تيارًا دينيًا إسلاميًا، قبطيًا، شيعيًا، مارونيًا ودرزيًا يقاتل بعضه بعضًا، يبدد جهد المسلمين ويصرف أنظارهم وتفكيرهم بعيدًا عن قضاياهم الجوهرية. مؤلفًا تيار عنف أعمى ينسف الدول ويدمر حياة مجتمعاتها ويزعزع أمنها واستقرارها.. في حين كان السلف الصالح من الأغنياء يضع وقته وجهده وماله في خدمة الأُمَّة، إذ أنفق الخليفة الأول الصديق ماله كله على الدعوة. وجهَّز الخليفة الثالث عثمان بن عفان جيش العسرة، واشترى بئرًا في المدينة لسقيا المسلمين دونما مقابل. وكان طلحة ينفق بسخاء من لا يخشى فقرًا على أصحاب الحاجة، حتى سُمِّى (طلحة الخير) وغيرهم كثير من نماذج مشرقة.
فأين هؤلاء المتطرفون الذين أنفقوا أموالاً طائلة جمعوها من حرام وحلال على آلة الخراب من قتل ودمار وتطرف وإرهاب فكري لتسييس الدِّين، بغية الوصول إلى سدة الحكم وتأسيس الدولة الثيوقراطية.. أقول: أين هؤلاء المتطرفين الإرهابيين المتخلفين المثقلين بالجهل في فهم الدِّيْن من أولئك الخيرين دعاة العدل والرحمة والرأفة، وحماة الإسلام وحملة الدعوة الصحيحة على بينة؟!.. فشتَّان ما بين دولة الرسالة السامية العظيمة التي أسسها النبي صلى الله عليه وسلم، الذي أرسله ربُّه رحمةً للعالمين، في نظامها ومبادئها وممارستها السياسية ونظمها الاجتماعية التي قامت على العدل والرحمة والتسامح والعفو، وتعليم الناس وإرشادهم إلى الخير؛ فكانت دولة راسخة ثابتة قوية سياسيًا وعسكرياً واقتصادياً. فالسياسة عندها: كل ما كان من الأفعال التي يكون الناس معها أقرب إلى الصلاح، وأبعد ما يكونون عن الفساد؛ وليس (Dirty Game) كما يراها الغرب اليوم.. والمتطرفون الذين ينتهجون كل وسيلة ممكنة لتحقيق غايتهم حتى إن كان ذلك على جماجم الأبرياء.. أقول: شتَّان بين دولة الرسالة السامية العظيمة، وبين الدولة التي يحلم بتأسيسها أصحاب الفكر المتطرف في قسوتها وشدَّتها وتزمتها وجهلها واحتكارها للدنيا والدِّيْن معًا، واعتدادها الزائف واعتزازها بالسلطة وسيلة وحيدة لإصلاح المجتمع (بجرة قلم أو بكلمة واحدة من الحاكم) كما قال بذلك مؤسس الجماعة وعرَّابها وقائدها الروحي حسن البنا، سيرًا على خطى فرقة الخوارج التي أحدثت تلك الفتنة الكبرى في الإسلام، وبابا الكنيسة قديمًا الذي كان يحتكر كل شيء في الدولة. وعلى كل حال، عزاؤنا أن القيمة تُحَاكَم بمرجعيتها، لا بسلوك معتنقيها.
شخصية المرشد العام:
لقد كان حسن البنا رجلاً مترع بالذكاء، يتدفق طموحًا، متطلعًا إلى القيادة والريادة والرئاسة منذ نعومة أظفاره، وقد قيل إنه كتب موضوعًا في حصة التعبير عندما كان طالبًا في التعليم الابتدائي، تحدَّث فيه عن رؤيته لتأسيس جماعة يرأسها ويدير شؤونها عندما يكبر. كما كان بجانب هذا واسع الثقافة، مطلعًا على تاريخ الأمم والشعوب، ضليعًا في اللغة العربية، له قدرة مدهشة على اختيار ألفاظه بعناية، بحيث تفعل فعلها في المتلقي فتأسر لُبَّه، سياسيًا بارعًا يجيد اللعب على رؤوس الأفاعي، كما قال الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح.. هادن القصر وتجسَّس عليه، حارب الوفد، وتعاون مع السَّعديين، وغازل الأحرار الدستوريين، بل تسلَّل إلى عرين الجيش ليكون نواة تنظيم الضباط الأحرار، الذي كان حتف جماعته على يده، كما نجح في تجنيد أفراد الشرطة. وذهب به طموحه أبعد من هذا ليتعاون مع المخابرات الأمريكية، مستغلاً رغبة أمريكا في تشجيع الحركات التي تتخذ من الإسلام وسيلة لتحقيق أغراضها السياسية لصد المد اليساري الديمقراطي في مصر، ومحاربة الشيوعية حيثما كانت. كما حارب الإنجليز في عهد فاروق، ثم تصالح معهم في عهد الثورة، فاتهمهم عبد الناصر بالخيانة؛ فكانت تلك السياسة الانتهازية بمثابة الحبل الذي شنقوا به، إذ أمر عبد الناصر بحل التنظيم، وزجَّ بقادته في المعتقلات، بل أعدم بعضهم وعلى رأسهم سيد قطب.
توجُّس القصر من الجماعة:
أقول هكذا نجح حسن البنا بخبث منقطع النظير في تأسيس سلسلة معقدة من علاقات متشابكة مركبة، جعلته متصلاً بالقصر على الدوام. ولهذا كان الملك فاروق يخاف الإخوان ويكرههم كثيرًا ويخشى على حياته منهم، ويرى في مرشدهم البنا خطرًا داهمًا عليه، وكابوسًا طالما أقلق راحته؛ مما حدا به للأمر بتسريح كل الموظفين والعمال الذين كانوا ينتمون للإخوان المسلمين من القصور والتفاتيش. فقد استقرت في ذهنه قناعة مؤداها أن جماعة الإخوان المسلمين تريد خلعه عن العرش وتأسيس جمهورية إسلامية، تشمل مصر وبقية الدول العربية والإسلامية يحكمها حسن البنا. ولهذا كان فاروق يرى ضرورة حل تنظيم الإخوان المسلمين وتشريد أفراده. وللسبب نفسه لم يسمح الملك فاروق مطلقًا بزيارة البنا إليه، تلك اللحظة التي طالما اشرأبت لها نفسه وتلهفت، لأنها كانت تمثل في تقدير المرشد العام للإخوان المسلمين انقلابًا سياسيًا واجتماعيًا هائلاً، يصعب كثيرًا تقدير مدى نتائجه. وللسبب نفسه أيضًا، قيل إن القصر تخلص من المرشد العام بتغييبه إلى الأبد.
سياسيون.. لا مشايخ:
وأحسب أن الملك فاروق كان محقًّا في هواجسه تلك تجاه حسن البنا، الذي لم يكن يطمح لتأسيس دولة دينية في مصر والوصول إلى سدة الحكم فحسب، بل كانت عينه على خلافة المسلمين أيضًا بعد أن خسرتها دولة آل عثمان في تركيا، إذ كان يردِّد صراحة: (نحن ندعو للدِّين لغرض سياسي، نأمل تحقيقه، ولسنا مشايخ طرق). ولتحقيق هذا الغرض أسَّس البنا جهازًا خاصًا عُرِف بـ (التنظيم السري) درَّب أفراده على استخدام الأسلحة التي جمعها وكدَّسها في مواقع خاصة للتدريب، بعيدًا عن أعين الرقيب. وكان من أهم أسباب نجاح البنا الذي دفعه للسير قدمًا في طريق النشاط الثوري السري، وانتشار فكره ولاسيَّما بين الشباب: ارتباط دعوته بالفطرة ومراوحتها بين الدعوة الدينية والأهداف السياسية من خلال استغلال القضية الوطنية ومشكلة فلسطين.
نشاط التنظيم السِّري:
وخلافًا لما يدعيه تنظيم الإخوان المسلمين من حرص على نشر الدعوة وتعليم الناس أمور دينهم، وتأصيل مبدأ الخير والتعاون على البر والتقوى، وترسيخ قيم الإسلام من سماحة ومحبة وعدل وسلام وغير ذلك من قيم فاضلة نبيلة، نشط التنظيم السري في الظلام لتأسيس الدولة الدينية عبر التطرف والإرهاب من خلال جمع الأسلحة وصنع المتفجرات وتحديد الخطط لاغتيال القيادات والمسؤولين البارزين في الدولة والفنانين، ونسف الجسور والمصانع ومحطات الكهرباء والمطارات والدوائر الحكومية من إذاعة وتلفزيون ومراكز شرطة ومباحث وإشعال النار في دور السينما والمسارح، بهدف تعطيل الحياة تمامًا، وبث الذعر في نفوس الناس وإرهابهم، حتى يسهل على التنظيم اعتلاء سدة الحكم دونما مقاومة مكلفة في العدة أو العتاد، وتأسيس مجتمع الإسلام، ومن ثم تحقيق رؤية مؤسس التنظيم وعرَّابه التي كان يحلم بها منذ طفولته المبكرة، فطالما خاطب أنصاره قائلاً: (إذا قيل لكم: إلامَ تدعون؟ قولوا: ندعو إلى الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، والحكومة جزء منه). ويؤكد هذا مرة أخرى أن هدف البنا هو استغلال الدِّين للوصول إلى حكم البلاد، وبالتالي التطلع إلى خلافة المسلمين، ملتمسًا لدعوته للحكومة الإسلامية واعتبارها من الأصول مبررًا؛ فيذكر أنه وجد في طريق دعوته لإصلاح المجتمع وتطبيق رسالته عقبتين: أداة الحكم والاستعمار. ولهذا كان يرى أن أقصر الطرق لتحقيق الإصلاح هو السيطرة على الحكم، لأن الحاكم في نظره يستطيع إصلاح الأحوال بجرة قلم أو بكلمة واحدة. وهنا يتضح لنا سبب حرص البنا على الوصول إلى الحكم، واعتبار الحكومة الإسلامية ركنًا من أركان الإسلام، وأصلاً من أصوله. وقد أكد المهتمون بهذا الشأن أن فكر الإخوان المسلمين هذا، فكر متطرف مغالٍ، يستغل الدِّيْن لتحقيق أهداف سياسية محضة، ليس لها أي صلة بالدِّيْن، لا من قريب ولا من بعيد.
غير أن الواقع خلاف ما يزعم البنا، فسرعان ما دبَّ الخلاف بين قيادات الجماعة، خصوصًا قيادات الجهاز الخاص (التنظيم السري) إضافة إلى كثير من أعضائه البارزين؛ وأغرتهم شهوة الحكم بالتمرد على كبيرهم الذي جندهم ليستغلهم لإشباع شهيته للحكم، مما جعل البنا يتجرع مرارة الخذلان، فأطلق عليهم تلك الصيحة المدوية التي ما زال كثيرون يرددونها، وأحسب أنهم سوف يظلون كذلك إلى الأبد: (ليسوا إخوانًا.. وليسوا مسلمين).
وحقًا لا أدري، إن كان الأمر نتيجة اطلاع على تاريخ هذه الجماعة، أم أنه بسبب النماذج الماثلة اليوم، أم رُبَّما نتيجة المصادفة التي قيل إنها خير من وعد.. وصفت أنجيلا ميركل، المستشارة الألمانية السابقة (إخوان) اليوم بما وصف به البنا (إخوانه)؛ ومن نافلة القول إن تريزا ماي، رئيسة وزراء بريطانيا السابقة، قد سبقت ميركل في هذا، أثناء إحدى زياراتها لبلادنا حسبما أذكر، عندما رأت بأم عينيها حجم القتل والدمار والخراب، وتعطيل قافلة التنمية في المنطقة، الذي يمارسه أولئك الأشقياء المتطرفين الإرهابيين باسم الدِّيْن.
ما أشبه الليلة بالبارحة:
ومهما يكن من أمر، فإن ما يحدث في إيران باسم الدِّيْن منذ عام 1400هـ/ 1979م، حتى اليوم، وما حدث في أفغانستان ويحدث اليوم أيضًا، ولاسيَّما ما حدث في السودان خلال ثلاثة عقود عجاف من حكم الإخوان المسلمين، يستدعي إلى الذاكرة تلك المقولة السائرة الشهيرة: (ما أشبه الليلة بالبارحة). أجل.. فمثلما انقلب أعضاء التنظيم السري على كبيرهم حسن البنا أمس، انقلب إخوان السودان اليوم على كبيرهم حسن الترابي، ونجحوا في إبعاده عن سُدَّة الحكم بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى منها، بعد عزله، لتدفعه شهية الحكم لتكوين تنظيم، موازٍ أطلق عليه اسم (المؤتمر الشعبي) متخذًا منه حصان طروادة ليجلسه على كرسي الحكم رغم أنف تمرد تلاميذه عليه، غير أن المنية لم تمهله طويلاً لإشباع شهيته في الحكم، حاله حال شيخه وسمِّيه مؤسس الجماعة، الذي رحل عن الدنيا وفي نفسيه شيء من (حتى).
أما مساوئ حكم أولئك ومثالبهم باسم الدِّيْن في إيران وأفغانستان والسودان، وحتى في مصر أيام مرسي العياط، فهي أوضح من الشمس في رابعة النهار. فما حدث من تراجع مريع في كل مناحي الحياة، وما انتشر من فساد بين أفراد الطغمة الحاكمة أزكمت رائحته النتنة الأنوف، يصعب شرحه، إن لم يكن يستحيل؛ بل أكثر من هذا: أكاد أجزم أن عقيدة الناس وتمسكهم بالدِّيْن في تلك البلدان قبل حكم تنظيم الإخوان المسلمين، كان أفضل منه أثناء حكمهم. ومما يحز في النفس فعلاً، أن حكم أولئك كان خصمًا على الإسلام في عيون الأمم غير المسلمة، خصوصًا لدى الغرب، إذ تأصل فيه الفتك بالأبرياء وتخريب العمران وترويع المجتمع وزعزعة الأمن والاستقرار، ودمار الاقتصاد، واستشراء الفساد، وتردي الأخلاق نكاية بالوطن، ورجوعًا به القهقري. وقد ظهر هذا جليًا في شماتة الإخوان بنكبة 1387هـ/ 1967م التي لم تكن هزيمة لعبد الناصر، صديق الأمس الحميم، عدو اليوم اللدود، بقدر ما كانت هزيمة لمصر كلها شعبًا وتاريخًا ومستقبلاً، بل كانت هزيمة للأمتين العربية والإسلامية.. وأكثر من هذا: أستطيع القول إن جرح تلك الهزيمة المرة القاسية لم يندمل بعد، بل رُبَّما يظل ينزف لعقود عديدة.
الخريف العربي:
ومع هذا كله، تظل أسوأ نكبة على أُمَّة الإسلام جميعها، تتمثل في تلك المجموعات الإرهابية المتطرفة التي فرَّختها جماعة الإخوان المسلمين، إثر تشرذمها وتشظيها، نتيجة طمع الكل في الظهور والقيادة والحصول على الثروة، لتكون جماعات متطرفة عديدة في نظرتها للمجتمعات، تستغل الدِّيْن أيضًا لتحقيق أهدافها المشبوهة؛ استغلتها المخابرات الغربية بذكاء شديد لتجعل منها معاول هدم في بلاد المسلمين كلها تقريبًا، بما مارسته من تطرف وإرهاب أعمى، أشاع القتل والدمار والخراب والفوضى حيثما حل لعقود، انتهى بأُمَّة العرب إلى (خريف) ذبلت فيه أوراق الأمن والاستقرار والسلام على تواضعه في ظل حكم العسكر، فسقطت وتهاوت معها عروش انتهت بمعظم تلك الدول إلى دول فاشلة، لم يتوافق أهلها حتى اليوم على طريقة حكمها بعد أن نجح الغرب في استقطاب تلك الجماعات لتفرِّخ مئات الحركات المسلحة، فتقلب حياة الناس إلى جحيم لا يطاق، وتظل تلك البلدان تراوح مكانها من التخلف وهي توغل في وحل الفتنة والخوف الذي يعد أخطر ما يهدد كيان الأُمَّة، لتظل إلى الأبد موردًا مهمًا للمواد الخام للغرب، وسوقًا رائجة لمنتجاته، خصوصًا من السلاح الذي يشعل نار الفتنة كلما سعى الخيرون لإطفائها وإخماد جذوتها.
والحقيقة، لا أحد يتهم الإخوان المسلمين جزافًا بالتطرف والإرهاب، فقد ولدت تلك النزعة الشريرة مع بداية تأسيس حركتهم في الإسماعيلية عام 1347هـ/ 1928م كما سبق، على يد قائدهم الروحي حسن البنا، لتسرى عدواها من مساجد الإسماعيلية ومقاهيها إلى جميع أنحاء العالم تقريبًا؛ فقد اغتالوا النقراشي باشا رئيس الوزارة في مصر، كما اغتالوا علي ماهر، واغتالوا السادات، وحاولوا قبل ذلك اغتيال عبد الناصر في حادثة المنشية الشهيرة، وغير أولئك من وزراء وكتَّاب ومفكرين ومؤرخين وإعلاميين. كما حاول إخوان السودان بالأمس القريب اغتيال حسني مبارك أثناء زيارته لإثيوبيا، والعجيب الغريب أن هذه الحادثة موثقة على لسان كبيرهم الترابي في برنامج (شاهد على العصر) الذي كانت تبثه قناة الفتنة. وبعيدًا عن رائحة القتل والدمار هذه كلها، لن ننسى محاولة أعضاء هذا التنظيم الشيطاني، اغتيال ولي العهد السابق في بلادنا، إلى غير ذلك من عمليات التطرف والإرهاب التي راح ضحيتها كثيرون، في كثير من بلدان العالم، ولاسيَّما في معظم الدول العربية والإسلامية.
وهكذا انطلت حيلة الغرب على أولئك السُّذَّج، فقدموا أعظم خدمة له، لأنه يدرك جيدًا أن التعصب والتحزم والتشرذم، خصوصًا فيما يتعلق بالعقيدة، يعد السبيل الوحيد لتدهور العرب والمسلمين وبقائهم يراوحون مكانهم من التخلف والانحطاط، فشجع تلك الحركات التكفيرية ودعمها بالمال والسلاح والرجال، ووفر لها غطاءً سياسيًا (شرعيًا) مكَّنها من استنزاف الدول التي تعمل فيها.
وبعد:
أستطيع القول باطمئنان شديد: لقد صدق حسن البنا وهو كذوب، فأتباعه: (ليسوا إخوانًا.. وليسوا مسلمين). فغاية المسلم الصحيح وهدفه السامي هو تحقيق معنى الاستخلاف في الأرض بتعميرها، وبسط الأمن وتحقيق الاستقرار، ونشر للخير للناس كلهم، دونما تفرقة بسبب لون أو جنس أو دين.