د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
بصدور قرار مجلس الوزراء رقم (523) في 11-9-1443هـ بالموافقة على ضوابط السماح للممارسين الصحيين الحكوميين بالعمل في مؤسّسات القطاع الصحي الخاص المرخصة خارج أوقات الدوام الرسمي، وفق ضوابط أهمّها (أن يكون الممارس سعودياً وطبيباً استشارياً)، فإنة يكون قد مرّ من الزمن خمسون عاما منذ صدور نظام تفرغ الأطباء بقرار مجلس الوزراء رقم (175) وتاريخ 28-2-1392هـ الذي نص على أن يتفرغ الأطباء الحكوميون لعملهم في الدولة ويمنح الأطباء السعوديون بدل تفرغ مقداره (80 %) مقابل التفرغ والعمل الإضافي المسائي ثلاث ساعات.
كان الأطباء في بداية هذه المرحلة قليلي العدد؛ إذ إنه في عام 1391هـ بلغ إجماليّ عدد الأطباء بوزارة الصحة (817) طبيباً، وعدد الأطباء السعوديين بينهم لا يتعدّى 103 أطباء - وكان مرخصاً لجميع الأطباء -عامّين وأخصائيين، سعوديين وغير سعوديين- أن يجمعوا بين العمل في القطاع الحكومي والقطاع الخاص، فهم غير متفرغين لخدمة مرضاهم طوال اليوم لأنهم مشغولون بعياداتهم الخاصة في المساء. واقترحت الوزارة تخيير الأطباء السعوديين بين التفرّغ للعمل في المستشفى الحكومي أو الاستقالة للعمل في العيادة الخاصة. أما غير السعوديين فهم أصلاً قادمون بعقود عمل مع الوزارة وليس أمامهم خيار، إلا إذا لم يرغبوا في تجديد العقد، وطلبوا الترخيص لهم بفتح عيادة خاصة. وبناءً على ذلك صدر نظام تفرغ الأطباء الآنف ذكره. فأما القائمون على رأس العمل في المستشفى والعيادة الخاصة من الأطباء السعوديين وقت صدور النظام فقد فضّل بعضهم - سيّما الراسخون في الممارسة-الاحتفاظ بالعيادة وقدّموا استقالاتهم، والبعض الآخر أقفلوا العيادة بعد أن أجيب طلبهم للابتعاث.
وقد نفع هذا النظام منذ صدوره القطاع الصحي الحكومي بأن عوّض المرافق الصحية -وخاصة المستشفيات - شيئاً من نقص الأطباء بتمديد وقت تقديم الخدمة الطبية ثلاث ساعات في اليوم؛ وفتح المجال أمام الأطباء السعوديين للتركيز على تحسين العناية بالمرضى والتوجه نحو التخصص العالي؛ كما مكّن القطاع الصحي الخاص من التوسّع بخلوّ السوق من المنافس الحكومي.
أولاً: التوجّه نحو التخصّص العالي:
من تحصيل الحاصل أن نظام التفرّغ بعد أن ألغى حافز العمل الخاص جعل الابتعاث للتخصّص هو الخيار الأفضل والمرغوب لأولئك الذين التحقوا بجهة صحية حكومية بعد تخرجهم من دراسة الطب وقضاء عامين من الخدمة بها أو الذين تخرجوا والتحقوا مباشرة ببرنامج التخصص بموافقة جهة العمل. هؤلاء المبتعثون الأوائل - قبل عام 1400هـ - عادوا حاملين شهادات التخصّص العالي (وظيفياً تُعادل بالدكتوراه)، وأفرغوا ما اكتسبوه من علم وتدريب وخبرة خالصاً للجهة الصحية التي تمّ تعيينهم بها بعد حصولهم على شهادة التخصص -إمّا في كليات الطب الثلاث التي افتتحت بين عامي 1389هـ - و1395هـ، أو مستشفيات حكومية في المدن الكبيرة. وقد كانت الحاجة لهم كبيرة، لأن وقت تخرجهم من برامج التخصص العالي الذي ابتعثوا له كان يصادف زمناً لم تكتمل فيه بعدُ كلّ المشاريع الإنشائية الحديثة للمستشفيات وتجهيزاتها ولا مشاريع التشغيل الطبي بواسطة جهات أو شركات عالمية بها كبار المتخصصين من بلدان متقدمة (باستثناء مستشفى الملك فيصل التخصصي)، بينما المستشفيات القائمة الأخرى كان ينقصها الأخصائيون ذوو التخصصات الدقيقة والتجهيزات الحديثة. وهذه أمثلة قليلة من إسهامات الرعيل الأول من أولئك الأخصائيّين:
أ- في مجال الخدمات العلاجية
1 - إدخال تقنية التنظير الضوئي في فحص الجهاز الهضمي في مستشفى الرياض المركزي لأول مرة بالمملكة (1399هـ).
2 - جلب جهاز (دورنير) لتفتيت حصوات الكُلى من ألمانيا واستخدامه في مستشفى القوات المسلحة بالرياض (1405هـ).
3 - تأسيس مركز لجراحة العظام والعمود الفقري وابتكار طريقة حديثة لتثبيت الفقرات العنقية المصابة بالخلع (مستشفى الملك فهد في جدة (عام 1402هـ).
4 - تأليف وإخراج أوّل فحص سمعي كلامي باللغة العربية للكبار والصغار موزون ومسجل (جامعة الملك فيصل بالدمام (عام 1402هـ).
5 - افتتاح مركز لتقنية أطفال الأنابيب -التي استخدمت في بريطانيا منذ (عام 1978)- في المملكة، في جدّة (عام 1404هـ).
ب- في مجال التعليم الطبي
1 - أولئك الأوائل الذين عادوا من الابتعاث للتخصّص الطبيّ فضّل معظمهم العمل في السلك الأكاديمي بكليات الطب الناشئة؛ ومع زملائهم، الذين ابتعثتهم الجامعات للتخصص في العلوم الطبية الأساسية، ومع من سبقوهم من الزملاء غير السعوديين ومن زيارات استطلاعية ولقاءات علمية أسهموا في تطوير التعليم الطبي - وتخرّج على أيديهم المئات من الأطباء السعوديين الأكفاء.
2 - مع بداية توافر مستشفيات حديثة منذ عام 1401هـ ووجود أطباء استشاريين سعوديين ضمن هيئة التدريس في كليات الطب، وفي الجهات الصحية، سعى هؤلاء الأطباء لإنشاء برامج تخصصية (دبلوم عال مثل دبلوم الأطفال ودبلوم النساء والولادة في مستشفى الولادة والأطفال بالاتفاق مع جامعة أدنبرة؛ أو زمالة كما في طب العيون بجامعة الملك سعود بالرياض - بالمشاركة مع مستشفى الملك خالد التخصّصي للعيون، وفى طب الأنف والأذن والحنجرة في جامعة الفيصل بالدمام، وفي طب أمراض الدم في جامعة الملك عبد العزيز بجدة - على سبيل المثال لا الحصر)؛ وذلك حتى قيام الهيئة السعودية للتخصصات الصحية بإنشاء البورد السعودي منذ عام 1415هـ.
3 - خارج كليات الطب اتفق الأطباء الاستشاريون في كلّ من كلّية طب الرياض ومستشفى القوات المسلحة بالرياض في نهاية عام 1402هـ على تأسيس مجلس مشترك للدراسات الطبية العليا، انضمّ إليه بعد أشهر وزارة الصحة وإدارات الخدمات الطبية في الحرس الوطني ووزارة الداخلية ومستشفى الملك فيصل التخصّصي، ويهدف لتهيئة الفرص للأطباء لتنمية معلوماتهم ومهاراتهم من خلال عقد الندوات والمؤتمرات والدورات التدريبية أو دورات التحضير لبرامج الزمالات الأجنبية والإشراف على امتحاناتها، أو تنظيم نوادٍ تخصّصيه لتبادل الخبرات والمستجدات العلمية.
4 - قدّم المجلس عام 1406هـ طلباً برفع مستواه إلى مؤسّسة عليا ورفعه للمقام السامي الذي أمر وزارة التعليم العالي في عام 1407هـ بعقد ندوة يناقش فيها أعضاء المجلس المشترك وعمداء الكليات الصحية ومديرو الجهات الصحية هذا الطلب. وأوصت الندوة بإنشاء مجلس التخصّصات الصحية. وبعد مرور خمسة أعوام من مناقشات اللجان صدر المرسوم الملكي في صفر1413هـ بإنشاء الهيئة السعودية للتخصّصات الصحية، التي تشرف منذئذ على آليّات الترخيص والتسجيل المهني وبرامج الزمالات الأجنبية والزمالة السعودية وأنشأت الهيئة مجالس علمية لكل تخصّص صحي.
هذا المستوى من تطوير المهنة بذره ورعاه وسقاه -بدعم من الدولة- استشاريون سعوديون متفرغون لممارسة وتطوير المهنة.
ج- في مجال البحوث الصحية
الطبيب الباحث يحتاج للوقت لكي ينجز بحثه دون أن يتأثّر عمله اليومي. وقد أتاح التفرّغ للأطباء الاستشاريين - لا سيّما الأكاديميين- الفرصة لدراسة انتشار الأمراض الشائعة في المملكة وعوامل انتشارها؛ وشملت تلك البحوث: - اللشمانيا، - البلهارسيا، - أمراض الدم الوراثية، - الحمّى المالطية، - الدرن الرئوي، - معدل وفيات الأمهات، - التهاب الكبد الوبائي(ب) في الأعمار (12)عاماً فأقل، - انتشار أمراض الشريان التاجي بالقلب والأمراض ذات العلاقة - داء. السكّري - صحة الفم والأسنان لدى طلاب المدارس، - الكشف المبكر لإصابة المواليد بالأمراض الاستقلابية.
ثانياً- التوسّع في برامج التدريب التخصّصي:
ترتّب على إنجاز الجهات الصحية الحكومية لعشرات من المستشفيات الحديثة العامّة والجامعية والتخصصية منذ1400هـ، والنقص الشديد في القوى العاملة الطبية والفنية والتقنية المؤهّلة لتشغيلها، إن ظهرت الحاجة إلى الاستعانة بخبرات أجنبية بالتعاقد مع جامعات أو دول أو شركات عالميّة متخصّصة، وإلى بناء كوادر وطنية متخصصة من مختلف الفئات، ومن بينها فئة الأطباء. وقد ساعد نظام تفرغ الأطباء في تلبية هذه الحاجة للمستشفيات بالعمل وقتاً أطول في المستشفى، وتحسين إمكانيات المستشفى في التشخيص والعلاج وزيادة الوقت المتاح للأطباء حديثي التخرج والتوظّف لكي يطوّروا مهاراتهم وخبراتهم، وزيادة قدرات المستشفى على تنفيذ برامج التخصّص المحلّية؛ ومن ناحية ثانية فإن غياب الحافز المالي من العمل في عيادة خاصة ووجود شركات تشغيل يقوم أطباؤها بمعظم العمل الطبي في المستشفى والزيادة المطّردة في أعداد المتخرجين من كليات الطب في المملكة؛ كلّ ذلك دفع إلى الابتعاث المتتابع للتخصّص في الخارج في دول متقدّمة، أو الالتحاق في الداخل ببرامج الزمالات الأجنبية، ومنذ عام 1415هـ الالتحاق ببرامج الزمالة السعودية (البورد السعودي) حيث تخرجت أوّل دفعة عام 1419هـ، وفى كلّ عام يُحتفل بتخريج دفعة جديدة.
ومحصّلة ذلك أنه بعد أن كان هناك في عام 1391هـ ستّون طبيباً أخصائياً سعودياً في المستشفيات الحكومية جلّهم حملة دبلوم، صار لدينا عام 1441هـ (19050) طبيباً أخصائياً سعودياً.
ثالثاً- تطوير الإمكانات الطبية
وأسلوب التشغيل:
إضافة إلى الإسهامات المبكرة للرعيل الأول من الأطباء الأخصائيين السعوديين فقد أسهم الجيل الذي جاء بعدهم من المبتعثين للتخصّص في دول متقدّمة في تطبيق وتوطين تقنيات علاجية وتشخيصية حديثة؛ ومن أمثلة ذلك جراحات: القلب المفتوح - التوائم - المخ والأعصاب - تحسين البصر- المفاصل - وجراحة المناظير؛ زراعة الأعضاء - زراعة القوقعة - وزراعة نخاع العظم والخلايا الجذعية، وغير ذلك. وساندهم في ذلك تفرّغهم التام وقتاً كافياً للممارسة في بيئة عمل مناسبة حيث وجدوا مستشفيات كبيرة حديثة البناء والتجهيز والنظم الإدارية تديرها بعقود سخيّة شركات تشغيل معروفة جلبت معها أطباء وفنيين وإدارين من أصحاب الخبرة في بلادهم. ولكن حيث تكرّر تمديد عقود التشغيل، وبدأت الشركات تخفّف من تكاليف التشغيل في ظروف انخفاض إيرادات النفط ومن ثَمّ الميزانية، كما أنه قد مضى من الوقت ما يكفى لاستيعاب التقنيات والنظم الإدارية التي يطبقها الأطباء والخبراء الأجانب، فإن الأطباء الأخصائيين السعوديين- وقد غمرهم شعور بالانتماء لمستشفياتهم، ومنهم مسؤولون في الإدارة، لم يكتفوا بما تتيحه عقود التشغيل من خدمات وتقنية، ورأوا أنّ الجزء الأعظم من بنود العقود يدفع كرواتب لأطباء الشركة المشغّلة وكأتعاب لها، وأنّ الأولى هو توجيه هذه البنود لتوظيف الأخصائيين السعوديين ولتطوير المستشفيات، وأن يتمّ تشغيلها ذاتياً. وقد ترجم هذا الرأي إلى طلب رفعه للمقام السامي عام 1417هـ مدير الخدمات الصحية بالحرس الوطني، وعام 1418هـ وزير الصحة، ولم يمض أكثر من (14) عاماً، إلّا وقد انتهت كل عقود التشغيل الطبي دون تجديد وأصبحت المستشفيات تُدار بنمط التشغيل الذاتي.
رابعاً. - حوافز القطاع الخاص تترصّد لنظام تفرّغ الأطباء:
1 - كان لإبرام عقود مع شركات عالمية متخصصة لتشغيل بعض المستشفيات الجديدة التابعة لوزارة الصحة والقطاع العسكري التي أنشئت حوالي العام 1400هـ وما بعده (وقبل ذلك مستشفى الملك فيصل التخصّصي) من جهة، وتوسّع القطاع الخاص في إنشاء وافتتاح مجمعات طبية ومستشفيات جديدة من جهة أخرى، تأثير جاذب أغرى عدداً من الأطباء الأخصائيين بالتسرّب وترك وظائفهم إمّا بالاستقالة أو التقاعد المبكر أو الإعارة.
2 - في عام 1412هـ صدرت لائحة وزارة التعليم العالي التي تسمح لأعضاء هيئة التدريس (ومنهم الأطباء) في الجامعات بالعمل في القطاع الصحي الخاص بمعدل جلستين (ساعتين) في الأسبوع خلال الدوام الرسمي. وذلك للحدّ من تسرّبهم للقطاع الخاص سعياً وراء الحوافز المالية.
3 - صدرت لائحة الوظائف الصحية عام 1412هـ وتضمنت سلّم رواتب للممارسين الصحيين الموظفين في الدولة يختلف عن الموظفين الآخرين في الدولة، مع الإبقاء على التمديد في ساعات الدوام (48 ساعة في الأسبوع) وزيادة محدودة في الراتب الأساسي، لكن بدل التفرغ للأطباء يتناقص مع الترقّى من مرتبة لأخرى (من 70 % بالمرتبة الأولى إلى 40 % للمرتبة السابعة).
4 - لكنّ الأطباء الحكوميين المشمولين باللائحة سارعوا إلى المطالبة بمساواتهم بزملائهم الذين يعملون مع شركات تشغيل المستشفيات الحكومية برواتب مرتفعة تصرف لهم من ميزانية المستشفيات، وأيّدت اللجنة المشكّلة لدراسة تلك المطالب عام 1418هـ. في محضرها مطالب الأطباء وأن تسرّب بعض الأطباء يرجع في معظمه لما تقدمه شركات التشغيل والمستشفيات الخاصة من إغراءات مالية؛ واقترحت اللجنة توحيد سلّم رواتب المتعاقدين على البنود، وزيادة واتب المشمولين بلائحة الوظائف الصحية والممارسين الصحيين العسكريين والأكاديميين.
5 - في عام 1422هـ أصدر مجلس الوزراء تنظيماً يسمح للطبيب الاستشاري السعودي خارج وقت الدوام الرسمي بفتح عيادة خاصة في المؤسّسة الصحية الحكومية التي يعمل بها.
6 - بعد تحوّل كثير من المستشفيات الحكومية من التشغيل الطبي بواسطة الشركات إلى التشغيل الذاتي واحتفاظ الأطباء السعوديين فيها بسلّم رواتب الشركات العالية أوجد فروقاً كبيرة في الرواتب والمزايا الوظيفية مع سلالم الرواتب الأخرى لصالح التشغيل الذاتي، ممّا جعل مجلس الخدمات الصحية (المجلس الصحي السعودي) يتبنّى المطالبة بتوحيد سلالم الرواتب، ويرفع الأمر عام 1426هـ للمقام السامي، الذي وجّه مجلس الخدمات الصحية ووزارتي المالية والخدمة المدنية ببحث توحيد الرواتب بما يناسب (منافسة السوق). وفي عام 1430هـ أقرّ المقام السامي كادراً جديداً مُوَحداً شاملاً البدلات وسلّم رواتب للمهن الصحية. وكان غير مُرضٍ لأطباء برامج التشغيل الذاتي لأنه قلّل من مميزاتهم.
7 - كان أعضاء المجلس الصحي السعودي قد أوصوا في جلستهم في 12-9-1440هـ بالسماح للكفاءات الطبية والصحية الوطنية بالعمل في القطاع الخاص بعد ساعات عملهم الرسمي، ودعم المجلس توصيته بدراسة أرسل نتائجها في 2-3 -1442هـ إلى مجلس الوزراء، الذي أصدر بعد استكمال المرئيات النظامية والصياغية، في 11-9 - 1443هـ موافقته على ضوابط السماح للممارسين الصحيين بالعمل في القطاع الصحي الخاص خارج وقت الدوام الرسمي (وهو الوقت المحدًّد في لائحة الوظائف الصحية)، واشترط أن يكون من يُسمح له طبيباً استشارياً سعودياً.
خامسا- تكيّف نظام التفرغ مع السياق الزمني والظروف:
لقد ظلّ نظام تفرغ الأطباء ساريَ المفعول طيلة خمسين عاماً، فهل يُعتبر صدور هذه الموافقة المذكورة تفريغا للنظام من مضمونة أو إلغاءً له - سيّما أنها تضمنت النص على أن المجلس الصحي السعودي يراجع هذه الضوابط بعد ثلاث سنوات وينظر في مدى مناسبة تطبيقها على باقي فئات الممارسين الصحيين في رأيي أنه لا هذا ولا ذاك. بل أنه تكيّف طبيعي مع السياق الزمني وفق الظروف، كما يتبيّن من المقارنة التالية:
1 -صدر نظام تفرغ الأطباء (1392هـ) لمعالجة قلّة الأطباء وقت صدوره، فقد كان عدد أطباء المستشفيات الحكومية عام 1391هـ (711) طبيباً، ومعدّل خدمة الأخصائي للأسرّة (1 /26 سرير)
2 - لكنّ قلّة الأطباء في المستشفيات لم يعُد لها وجود كسبب لتفرغهم مع زيادة عدد الأطباء بالتوظيف والتعاقد وإتاحة فرص التعليم والتخصّص، إذ بلغ عددهم عام 1407هـ (10747) طبيباً، ومعدّل خدمة الأخصائي للأسرّة : (1/5أسرّه) وعددهم عام 1441هـ (62464) طبيباً، ومعدّل خدمة الأخصائي للأسرّة (1/ 1.6 سرير)
3 - واجه نظام التفرغ ظروفاً مستجدّة بعد عام 1400هـ، وخاصّة:
- ارتفاع مستوى المعيشة وتطلعات المجتمع.
- انخفاض اعتمادات الميزانية بين عام 1405 / 6 هـ وعام 1417/ 18هـ،
- حرص شركات تشغيل المستشفيات الحكومية الحديثة من ناحية، والقطاع الخاص الذي نما وتوسّع من ناحية ثانية، على استقطاب الكفاءات الطبية المحلية بإغراءات مالية استجاب لها البعض بالاستقالة أو التقاعد أو الإعارة.
4 - تفهّماً من الدولة لمطالب الأطباء (والممارسين الآخرين) الملحّة، وحرصاً من الجهات الصحية الحكومية على الحدّ من التسرّب أصدر مجلس الوزراء بين عامي 1412هـ - 1443هـ القرارات التي ذكرناها في البند السابق (خامساً). لم يترتّب على هذه القرارات أي مِساس بزيادة دوام العمل في المستشفى، كما أن السماح بالعمل الجزئي في القطاع الصحي الخاص لا ينطبق إلّا على الأطباء الاستشاريين السعوديين.
5 - لذلك استمرّ نظام التفرغ فعّالاً منذ أكثر من نصف قرن، وصار جزءاً من نظامنا الصحي لأن التفرغ للعمل بالمستشفى ضروري لتكثيف العناية الطبية مع تزايد الإصابة بالأمراض المزمنة والمعقّدة وتعدّد التخصّصات الدقيقة ووسائل الفحص والتشخيص، كما أن تلك الزيادة في وقت الدوام موصولة بالدوام الصباحي ممّا يمكّن الأطباء المسموح لهم بالعمل الجزئي في القطاع الخاص خارج الدوام الرسمي من الحصول على الوقت الكافي لبذل العناية المطلوبة لمرضاهم بالمستشفى.
سادساً - مصير نظام التفرّغ مع التخصيص والتحوّل الصحي:
أ- في عام 1437هـ (2016 ) أعلن سموّ وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان وثيقة) (2030 المستقبلية متضمّنة تغييرات جوهرية على منظومة الخدمات الصحية الحكومية تعكس اتجاه الدولة نحو تخصيص إدارة بعض الخدمات الصحية أو بعض الخدمات الصحية نفسها، وتطبيق المبدأ الهامّ بالفصل بين مقدّم الخدمة ومنظّم ومموّل الخدمة، وتحويل الملكية المباشرة لمرافق الخدمات الصحية من وزارة الصحة إلى شركة الصحة القابضة. وتضمنت إستراتيجية التحوّل الصحي المنبثقة من هذه الرؤية تكوين تجمّعات صحية تابعة لهذه الشركة في كل منطقة صحية يضمّ كلّ منها مجموعة من المراكز الصحية والمستشفيات ومستشفى تخصّصياً، وللتجمّع إدارة تنفيذية مستقلّة ويشرف على حوكمته مجلس استشاري مستقل. كما تضمّنت الإستراتيجية إمكانية الشراكة مع القطاع الخاص (في تنفيذ المشاريع أو تشغيل بعض الخدمات الطبية مثل الأشعة أو المختبر)، وإنشاء إدارة لشراء الخدمات الطبّية وبرنامج للضمان الصحي. وقد تمّ بالفعل تكوين التجمعات الصحية، وهي في طور استكمال الإجراءات التنظيمية والإدارية، وصدر بشكلً نهائي في عام 1443هـ نظام شركة الصحة القابضة، كما صدر مزامناً له تنظيم (مركز التأمين الصحي الوطني) الذي يتولًى وضع تصوّر شامل للتأمين الصحي يُعرض على القيادة العليا قبل تطبيقه.
ب - في ضوء إستراتيجية التحوّل الصحي لا بدّ من النظر إلى المادة العاشرة من قرار مجلس الوزراء الذي ورد ذكره في بداية هذا المقال بالموافقة على (ضوابط السماح للممارسين الصحيين الحكوميين للعمل في القطاع الصحي الخاص خارج وقت الدوام الرسمي)؛ فقد نصّت تلك المادة على: (يراجع المجلس الصحي السعودي هذه الضوابط بعد ثلاث سنوات من تاريخ نفاذها، وينظر في مدى مناسبة شمول هذه الضوابط باقي فئات الممارسين الصحيين الحكوميين أو بعضاً منهم، والرفع عمّا يتطلب استكمال إجراءات نظامية في شأنه). تطبيق هذه المادة ينطلق من عدّة اعتبارات:
1 - أن (باقي فئات..) تعنى الأطباء غير الاستشاريين والتمريض والأخصائيين الصحيين، وهم أكثر خبرة وعلماً في العمل المهني من ممارسين جدد أو متعاقدين، وأكثر قبولاً عند المراجعين.
2 - أن مجال الاستعانة بالممارسين الصحيين الحكوميين صار أمام القطاع الصحي الخاص أوسع، خاصّة في ساعات الدوام المسائي التي يزدهر فيها عمل المؤسّسات الصحية الخاصة.
3 - أن برنامج التأمين الصحي على المواطنين يكون على الأرجح قد بدأ تطبيقه، والدولة تدفع تكلفة التأمين على المواطن من خلال مركز التأمين الصحي الوطني (أو إحدى شركات التأمين التي يؤسسها أو يتعاون معها).
4 - إذا اجتمع للمواطن أن الدولة تشمله بالتأمين (باستثناء من لديه تغطية تأمينية من نظام آخر)، وأنه يستطيع ببطاقة تأمينه أن يراجع مجمّعاً طبياً خاصاً، وأن هذا المجمّع يوجد به في المساء ضمن العاملين ممارسون صحيون حكوميون، فإن الإقبال على مثل هذا المجمّع الخاص سيزداد، وسوف ترى إدارة التجمّع الصحي أن من المجدى في النطاق السكاني والجغرافي الذي تخدمه أن يقدّم هذا المجمّع الخاص كشريك (وليس مملوكاً) نفس الخدمات والرعاية الصحية التي تقدمها المراكز الصحية التابعة للتجمّع ويمكن أن يحلّ محلّ أحدها، سيّما من المراكز الممتدّة التي تقدّم خدمات مسائية.
5 - إن لاقت التجربة نجاحاً وتكرّرت، فإن هذا يعنى أن بالإمكان تخصيص المراكز الصحية نفسها - خاصة في مناطق الكثافة السكانية – لأن ذلك أيسر وأكثر قبولاً في المجتمع، فمن المعلوم أن مراجعي المجمّعات الطبية الخاصة من السعوديين يشكّلون النسبة الأكبر، على الرغم من مجانية العلاج في المراكز الصحية الحكومية؛ ومع أن الوضع في هذه المراكز قد تحسّن بعد تطبيق نظام المواعيد منذ أربع سنوات، ودعم المراكز بأطباء الأسرة المتخصّصين، فإن المتوقّع بعد تطبيق التأمين الصحيّ على المواطنين أن الإقبال على المجمّعات الطبية الخاصة سوف يزداد، ويكون من الحكمة عندئذ تخصيص المراكز الصحية التابعة للتجمّع الصحي، إمّا من حيث الإدارة وتقديم الخدمات أو إحلال المجمّعات الطبية الخاصة محلّها، وفي جميع الحالات يبقى الدفع عن طريق التأمين الصحي مشروطاً باحتواء المجمّع على خدمات الرعاية الصحية الأولية وطب الأسرة.