د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** لم تدم المدرسةُ «المشَّائية» - التي حاول فيها «أرسطو» الاستقلالَ عن مدرسة أستاذه «أفلاطون»- طويلًا، لكنها مثَّلت نهجًا معرفيًا اختلف إيقاعُه وبقي وقعُه، وعُرف منها – عدا مدرسة أفلاطون وأرسطو- الرواقيون والأبيقوريون والتشكيكيون؛ فكانت تلك المدارسُ وما أعقبها تأكيدًا لقيمة التثاقف المباشر الذي ولّد نظراتٍ ونظريات ما تزالُ ذاتَ أثرٍ فكري فاعل، وجاءت المجالسُ الثقافية في أدبنا العربي مشبهةً لها في بعض صورها وإن اختلفت في مفاهيمها ومنتجاتها وامتداداتها.
** اتكأت المجالسُ على مبادرات ذويها حيث يلتقي أناسٌ لا رابط بينهم سوى الرغبة بالإفادة مما تتضمنه الملتقياتُ الخاصةُ من حواراتٍ وحكاياتٍ ومعلومات، وقد برز منها – في ثقافتنا العربية التراثية والمعاصرة والمحلية - مجالس: قيس بن عاصم وسكينة بنت الحسين وولادة بنت المستكفي ومي زيادة وعباس محمود العقاد وطه حسين والجاسرَين حمد وعبدالكريم وعبدالكريم الجهيمان وعبدالعزيز الرفاعي والمبارَكَين: أحمد وراشد والعقيلَين عبدالله وأبي عبدالرحمن وعبدالمقصود خوجة ومحمد سعيد طيب ومحمد العبودي وعبدالعزيز الخويطر وعبدالله النعيم ومحمد أبا الخيل وسليمان السليم وحمد المانع ومحمد الفريح وعبدالرحمن العوهلي ومنصور التركي وحسن الهويمل ومحمد المشوح وعبدالرحمن المشيقح وعبدالرحمن موكلي ومعتوق شلبي وعبدالله باشراحيل وعمر بامحسون وسارة الخزيم وسهام العبودي وسواها في إشارات استدلال لا رصد استكمال، وتشمل معظم مدن الوطن، وتزامنت معها كما سبقتها وتلتها المراكيزُ والمقاهي والأندية الأدبية والجمعيات الثقافية في تنظيمات رسمية وغير رسمية.
** حين صدر كتابُ صاحبكم عن والده رحمه الله 1441-1352هـ الموسوم: (الألفيةُ لا الأبجدية) هاتفه أستاذٌ كبيرٌ ليقول له: «لو لم أعرف والدَك وأعرف عنيزة لافترضتُ أن هذا الكتاب يحكي عن أثينا أيام ألقها الفكري»، وبنى حكمَه على حكايات المجالس التي كان يغشاها الوالد في صباحاته ومساءاته، ووردت بصورةٍ عفويةٍ لم يُقصدْ بها تجملٌ أو مجاملةٌ، وكان منها جلساتُ الأساتذة والدكاترة والمشايخ: عبدالرحمن البطحي وعبدالرحمن الإبراهيم البسام وعبدالرحمن السليمان العثيمين وحماد الشبل وعبدالرحمن الدوسري وإبراهيم الموسى وسعد العبدالعزيز السليم وصلاح البسام وعبدالله الحمد الجلالي وإبراهيم العبيكي وعبدالعزيز القبيِّل وعبدالرحمن العليان وأحمد القاضي وعبدالله العبدالعزيز البسام وعبدالله العبدالعزيز المحيميدي وفريد الزامل ومهنَّا التركي وعبدالعزيز العبدالرحمن البسام ومحمد وسامي العبدالرحمن البسام والجطيلي الأشقاء: «ناصر وعلي وإبراهيم» وإبراهيم الصهيل وعبدالله الربيعي وآخرين لا يثق بذاكرته لاستقصائهم؛ ففيهم من رحل ومن توقف ومن أعيته السنون ومن ظلَّ سعيدًا بزائريه، رحم الله من مضى وأطال عمر من بقي.
** أيقن – بالمعاينة لا بالذِّكر – أن مجالس عنيزة قد نمت خلال العامين التاليين لصدور الكتاب، وبعد غيابٍ عن المكث الطويل في مدينته، وإذ تخفف من معظم أعبائه العملية واختار أن يقضيَ نصف شهر قبل عيد الأضحى عند والدته رعاها الله أنسَ ببعض المجالس القائمة واعتذر عن بعضها لضيق وقته، وأبلغه ذو ثقةٍ أن مجالس عنيزة المفتوحة - التي تستقبل كلَّ قادم دون موعدٍ أو علاقة أو استئذان وليست دورياتٍ مغلقةً أو استراحات استرخاء - تجاوزت ثلاث مئة مجلس، وهو رقم كبير لا ريب، ولو صحَّ شطرُه فهو كذلك كثير، ولعلّ المهتمين يقدمون بيانًا بها وشرحًا عنها.
** حافظ بعضُ المريدين والأبناء على مجالس شيوخهم وآبائهم الراحلين، وتنوعت بين يوميةٍ وأسبوعية وموسمية، وتمتد من الفجر إلى الفجر؛ فلا يحصرها الوقت، ولا تختصرها جدليات السياسة والرياضة، ولا تخلو من إضاءاتٍ تدفعُ من يودُّ الاستزادة في اتجاه البحث والسؤال، وتدور معظم جلساتها حول التأريخ الشفاهي والرموز المعرفية والإبداع الشعري « الفصيح والعامي» والإصدارات الحديثة والوثائق القديمة والمختلف والمؤتلف والذكريات والتجارب والخبرات.
** يعتذرُ ممن أُنسيَهم فلم تعدْ ذاكرته عذراء، ويشير إلى أنه التقى في المجلس الأسبوعي لمحافظ عنيزة الأستاذ عبدالرحمن السُّليم بمجلس إدارة جمعية التراث والوثائق ودار حوارٌ مهمٌ حول أنشطة الجمعية ومطبوعاتها، كما التقى – في جلسة خاصة – بالمدير التنفيذي للجمعية الصالحية المهندس عبدالعزيز البسام وناقش معه الآفاق المستقبلية لمركزي ابن صالح والأميرة نورة في ظل التكوين الجديد، واجتمع بباحثٍ آثاري يعمل على مشروع مُتحف عنيزة الوطني، وهو الأستاذ صالح الخميس ودُهش لما عرضه عليه من ثراءٍ نادر في تكويناتِ المدينة ومخزونها الممتد إلى عهود العرب البائدة وما قبلها، مثلما زار «مغارة الكيف» التي مثّلت حسًا سياحيًا عاليًا للأستاذ صالح السبيّل.
** ابتدأت فكرة المجالس المفتوحة بما يشبه مشائيي أرسطو؛ فأصحابها الأُولُ روادُ ثقافةٍ وروايةٍ وشعرٍ وتأريخ، ومرتادوها باحثون عن المعرفة والمتعة والإضافة، ولعلنا اليوم أحوجُ إليها بعدما أرّقتنا الوسائط الرقمية وجرفنا السيلُ المعلوماتي فانشغل الكهولُ والشباب والأطفال، ويذكر أنه اصطحب ابنه «يزن» حين كان طالبًا في المرحلة الابتدائية إلى مجلس الأستاذ عبدالرحمن البطحي رحمه الله (مُطلّة)، وما فتئ يَذكرُ تلك الجلسة ويُذَكِّر بما التقطه منها.
**صار المشاؤون مُجالسين، وأصبحت المجالسُ مكونًا مهمًا من مكونات الثقافة الفرعية، حتى إن بعضها صار موئلًا للعابرين كما المقيمين وللكبار كما الشادين، وانطلقت من بعضها مشروعاتُ أبحاثٍ ودراساتٍ وجمعيات، ولعلها تسدُّ فراغاتٍ لا تفي بمثلها الثقافة الرئيسية، ولو أتاح الزمن لصاحبكم إقامةً في عنيزة لأوجد له مجلسًا خاصًا، أما في الرياض فتباعدُ المسافات لن يحققَ هدفه الذي يتغيّاه.
** الثقافة وعيٌ وأوعية.