د. عيد بن مسعود الجهني
من يدقق في خطوط الفكر السياسي الذي تنتهجه السياسة الخارجية الأمريكية لن يفوته أن المملكة العربية السعودية تحتل مركزا متقدما في أولويات هذه السياسة، منذ عام 1933 عندما قرر الملك عبدالعزيز رحمه الله منح امتياز البترول السعودي لشركات النفط الأمريكية، عندما رأى أن السياسة الأمريكية تلتزم بمبدأ عدم التدخل فى شئون الدول الأخرى، ومناصرتها لحرية الشعوب واستقلالها من خلال مبادئ ويلسون الأربعة عشرة، وقد أرسلت بعثة دبلوماسية إلى المملكة بين عامي 1942 - 1943م، وأقامت المملكة مفوضية لها في واشنطن في عام 1946م.
ثم كان اللقاء التاريخي بين الملك عبد العزيز والرئيس الأمريكي تيودور روزفلت في 14 فبراير 1945 على ظهر الطراد (كوينسي) في البحيرات المرة عند مدخل قناة السويس، وقد قال الرئيس روزفلت بعد الاجتماع (بأن ما عرفته عن فلسطين والشرق الأدنى في محادثاتي مع ابن سعود لمدة خمس دقائق أكثر مما عرفته من تبادل عشرات الرسائل) وأردف روزفلت قائلا: (بين جميع الأشخاص الذين تحدثت معهم في حياتي ما وجدت واحدا حصلت منه مثل ما حصلت من هذا الملك العربي).
ومنذ عام 1943م برز اهتمام الولايات المتحدة بالبترول السعودي ودوره في الاقتصاد العالمي مما انعكس على سياستها من أجل تحقيق استمرار الإمدادات النفطية والمخزون الإستراتيجي، وقد ساهم القرار السعودي في فرض استقرار نسبى على سوق النفط العالمي وعلى تفادى وقوع أزمة اقتصادية عالمية، ومن هنا كان النفط والسياسة وجهين لعملة واحدة عند صانعي القرار السعودي والأمريكي.
ومع تعاظم المد الشيوعي واكتشاف المزيد من حقول النفط في الخليج، كان لزاما على الولايات المتحدة أن تحدد سياستها تجاه الشرق الأوسط فأصدر الرئيس ايزنهاور في يناير عام 1957 ما عرف بـ(عقيدة ايزنهاور) تتضمن المبادئ الرئيسية التي تقوم عليها سياسة الولايات المتحدة التي قدمها إلى الكونجرس حيث تحدث عن الخطر الشيوعي وأطماع الاتحاد السوفيتي في الشرق الأوسط.
وقد تعاقبت الإدارات الأمريكية وتولى رئاسة الولايات المتحدة رؤساء من الحزب الجمهوري وآخرون من الحزب الديمقراطي، فبعد أيزنهاور الجمهوري جاء كيندي الديمقراطي ثم جونسون الديمقراطي ثم نيكسون وفورد الجمهوريان، ثم كارتر الديمقراطي ثم ريغان الجمهوري ثم بوش الأب وهو جمهوري أيضًا، جاء بعده كلنتون الديمقراطي ثم جورج بوش الابن الذي خلفه أوباما الديمقراطي ثم جاء دور ترامب الجمهوري، وخلفه بايدن الديمقراطي، ولم تتغير المبادئ الرئيسة للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، واستمرت الشراكة السعودية - الأمريكية مجتازة اختبارات صعبة إقليمية ودولية مثل حربي 1967 و1973، واحتلال دولة الكويت الشقيقة ..الخ.
وقد تنامت اهتمامات الولايات المتحدة بدول الخليج العربي وعلى رأسها المملكة عندما اجتاح الروس أفغانستان، وبعد انهيار نظام الشاه وقيام الثورة الإيرانية وتهديدها بتصدير الثورة إلى دول المنطقة، وما تلا ذلك من نشوب الحرب العراقية - الإيرانية عام 1980م وهذا جعل العلاقات السعودية - الأمريكية تزداد وثوقا وارتباطا.
لقد أدت هذه الأحداث الخطيرة الدامية إلى تكريس اهتمام الولايات المتحدة بشئون دول الخليج العربي بصفة عامة والمملكة على وجه الخصوص، أخذا في الاعتبار الاحتياطات البترولية الهائلة المتوافرة لديها واستقرار النظام السعودي ودوره البارز في فرض الاستقرار على سوق النفط العالمي.
وفي عام1990 أصبحت العلاقات السعودية - الأمريكية أكثر ترابطا عندما غزا صدام حسين في الثاني من أغسطس 1990 الكويت فتعززت علاقات البلدين في عهد الرئيس بوش الأب فاستقبلت السعودية بقرار تاريخي أنقذ المنطقة من خطر كبير أكثر من 500 ألف جندي أمريكي وانطلقت حرب التحرير من على أراضيها لقمع عدوان صدام حسين، واستمرت السياسة الأمريكية تعتبر استمرار تدفق النفط أمراً حيوياً بالنسبة لأمنها القومي واستمرت علاقاتها مع السعودية على أهميتها في عهد الرئيس كلينتون الديمقراطي ثم جورج بوش الابن الذي خلفه أوباما الديمقراطي ثم جاء دور ترامب الجمهوري، وخلفه بايدن الديمقراطي.
لا شك أن النفط استخدم للحصول على مزايا اقتصادية بما فيها الإسهام في بناء معامل التكرير والمصانع البتروكيماوية والصناعات الأخرى التي لولا وجود النفط لم يكن من المحتمل أن تقام أصلا.
ويعد محور العلاقات الثنائية المتعلق في الشراكة التجارية والاقتصادية بين المملكة وأمريكا محورا مهما حيث تعد المملكة من أكبر شركاء أمريكا في التبادل التجاري فالمملكة تعد في مقدمة مصدري النفط في العالم وصاحبة احتياطي ضخم يبلغ أكثر من 266 مليار برميل من النفط.
وإذا سلمنا بأن النفط يعد أهم سلعة إستراتيجية في القرن المنصرم وهذا القرن وان الدول الصناعية دون استثناء مستورد شبه ثابت لاحتياجاتها من النفط، ورغم ان أمريكا منتجة للنفط الاحفوري والغاز الصخري إلا أنها تستورد النفط رغم ان إنتاجها من النفط والغاز الصخري بلغ أكثر من 12 مليون ب/ي.
وإذا عرفنا ان العالم مهيأ لخوض صراعات لتأمين الحصول على النفط لأدركنا أهمية النفط في العلاقات السعودية - الأمريكية على المدى القريب والبعيد رغم محاولات أمريكا تخفيض الواردات من النفط وحتى في أكثر الافتراضات تفاؤلا ورغم تبنى سياسات تشجع زيادة إنتاج النفط المحلى وتخفيف الاستهلاك فسوف تستمر الولايات المتحدة في استيرادها للنفط.
إذا الولايات المتحدة يهمها توطيد وتوثيق علاقات الصداقة مع المملكة كدولة تسيطر على اكبر نسبة احتياطي عالمي وتلعب دورا بارزا في استقرار سوق النفط الدولية.
ومع ذلك فان مناخ العلاقات السعودية الأمريكية تعرض لبعض التقلبات تمثلت في اختلاف وجهات النظر بين الدولتين في بعض القضايا الإقليمية ذات التأثير الخطير على سير هذه العلاقات، أبرز هذه القضايا القضية الفلسطينية حيث تقوم المملكة بتركيز نفوذها النفطي والاقتصادي والسياسي لدفع الولايات المتحدة للضغط على إسرائيل لإيجاد حل للمشكلة الفلسطينية التي تعد أحد أهم محاور السياسة السعودية الخارجية.
ولا شك أن علاقات التعاون والصداقة بين الدولتين لا تعنى التماثل لأن التماثل لا يتجاوز في الغالب تطابقاً في المصالح وليس تماثلا في كل التفاصيل والأحداث والتوجهات، وقد يرى البعض تطابق الموقفين الأمريكي والإسرائيلي حيال الصراع العربي مع إسرائيل وهو ما يعنى أن أمريكا لا تختلف عن إسرائيل في شيء وهذه الرؤية غير صحيحة على إطلاقها إذ تفترض أن المجتمع الأمريكي كتلة واحدة متماثلة عبر التاريخ غير قابلة للتغير، وأن إسرائيل والولايات المتحدة شيء واحد ـ هذه الرؤية التي تعمدت الصهيونية العالمية على تأكيدها وتثبيتها في العقل والوجدان الأمريكي ـ ولهذه القوى ومن يتعاطف داخل المؤسسات الإعلامية ومؤسسات البحوث الأمريكية، دورها في التحريض وتغذية مشاعر العداء ضد المملكة العربية السعودية تحديدا لدورها الطليعي النشط لتحقيق سلام عادل في فلسطين وإعادة الحقوق المشروعة إلى شعبها.
مما يؤكد أهمية المملكة على المستوى العربي والإسلامي والدولي، أن الولايات المتحدة الأمريكية، رؤسائها ومجلس شيوخها ونوابها مهما كانت هناك رؤى مختلفة في السياسة والعلاقات بين الدولتين المملكة والبيت الأبيض إلا أن الاعتراف بأهمية العلاقات بين الدولتين يدركه مثلا رؤساء أمريكا المتعاقبين على السلطة.
الرئيس السابق السيد ترامب من هذا الواقع كانت أول زيارة له خارج بلاده إلى المملكة، لإدراكه بأهمية بلاد الحرمين ودورها في العلاقات العربية والإسلامية والدولية ومكانتها الاقتصادية والنفطية والاستثمارية والسياسية وأمنها واستقرارها، وكانت زيارته التاريخية في 20 مايو 2017.
كانت الزيارة مهمة لدولة كبرى تمثل الأمتين العربية والإسلامية، لذا بين 20 و 21 من ذلك الشهر استقبلت العاصمة السعودية الرياض (55 من قادة العالم العربي والإسلامي ملوكا ورؤساء وأمراء، لتنعقد قمة سعودية - أمريكية وأخرى خليجية - أمريكية، وثالثة قمة عربية إسلامية - أمريكية).
وهذه القمم المهمة ليس باستطاعت دولة أخرى أن تضع الخطط لتنسيقها ووضع جداولها، مما يؤكد أهمية وثقل بلاد الحرمين مهبط الوحي دين الله الخالد، هذه القمم التاريخية من مسيرة العلاقات السعودية - الأمريكية، التي في معظم مراحلها يسودها التوافق إلى حد كبير في قضايا عديدة ومنها محاربة الإرهاب، لذا افتتح خادم الحرمين والرئيس المصري السيد عبدالفتاح السيسي والرئيس الأمريكي السيد ترامب مركز (اعتدال) لمكافحة الفكر المتطرف، وهو اقتراح سعودي وجد قبولا وارتياحا من قبل أعضاء القمم والمجتمع الدولي.
الرئيس السابق ترامب عاد إلى بلاده بعد أن وقع اتفاقيات تاريخية مع قادة المملكة بلغت قيمتها حوالي (450) مليار دولار، من ضمنها (110) مليارات دولار معدات عسكرية، وبذا فإنه ضمن لمواطني بلده أكثر من مليون فرصة عمل، وهذه المبالغ الضخمة ليس بمقدور دولة أخرى أن تقدمها ضمن اتفاقيات ومعاهدات بين الجانبين السعودي والأمريكي، الأمر الذي يرسل إشارات واضحة إلى الحزب الجمهوري والديمقراطي وصناع السياسة والاقتصاد والاستثمار والعلاقات الخارجية في ذلك البلد، مفادها أن دولتهم من المهم لها حاضرا ومستقبلا بناء الجسور القوية مع بلاد الحرمين الشريفين فهي دولة (قوة) وهي دولة أمن واستقرار، وسياساتها الداخلية والخارجية ثوابتها واضحة المعالم، وهي دولة (قوة) نفطية، لكن سياساتها الاقتصادية الحديثة مبنية على تنويع مصادر دخلها بعيدا عن (عباءة) النفط وقد حققت نجاحات عديدة من خلال قرارات اقتصادية واستثمارية درست وتدرس بدقة متناهية.
التاريخ يعيد نفسه الرئيس الأمريكي الديمقراطي السيد بايدن زيارته للسعودية تاريخية على خطى سلفه الجمهوري ترامب، التركيز على دفع عجلة العلاقات بين البلدين، بايدن اقتنع أنه بحاجة لتوطيد علاقة بلاده مع بلاد الحرمين الشريفين وهو سياسي مخضرم بدأ مسيرته منذ أوائل السبعينيات من القرن المنصرم، عضوا بمجلس الشيوخ ثم نائبا للرئيس السابق باراك أوباما، وبذا فهو ليس بعيدا عن ملف العلاقات السعودية - الأمريكية.
وبهذه الخبرة وإدارته تعيش أزمة نفط رغم أنها منتجة للنفط الاحفوري والغاز الصخري لكن أسعار البنزين والغاز في بلاده بلغت الثريا، والى أين يتجه؟ بالطبع إلى الدولة التي تدير سياستها النفطية المتوازنة، سوق النفط الدولية بل وتقود الأوبك.
وهو يدرك أن ذلك حقيقة واقعة وأن المملكة (بقوتها) النفطية تصدر قراراتها طبقا لمصالحها وحفاظا على استقرار سوق النفط الدولية الذي طالما (أنجدته) لتنتشله من عدم الاستقرار إلى حالة مقبولة من التوازن.
ولأن السيد بايدن هو صاحب مبادرة حاول من خلالها حل للقضية الفلسطينية عندما كان نائبا للرئيس أوباما عام 2010 لكن نتنياهو الذي كان رئيسا لوزراء الدولة العبرية في تلك الفترة من التاريخ أحبط تلك المبادرة، فهل السيد بايدن وهو الرئيس اليوم والسيد نتنياهو خارج السلطة، متحمسا لدفع عجلة السلام في الشرق الأوسط للتوصل إلى حل عادل للقضية الفلسطينية والقدس.
ثم ان السيد بايدن يدرك أن إيران مطبقة على دول أربع العراق وسوريا ولبنان واليمن، والمملكة تدعم الدولة الشرعية في اليمن، وهي تدفع الأموال لشراء السلاح الأمريكي، وكل ما تطلبه عدم عرقلة أو تأخير طلباتها مدفوعة الثمن، ثم أخيرا السياسة الأمريكية تجاه إيران متراخية وهذه الدولة تتدخل في السياسة الداخلية لدول الجوار، وتحتل جزراً إماراتية، وساعية (بقوة) لحيازة السلاح النووي، والإدارة الأمريكية تعلم ذلك علم اليقين، فهل لدى السيد بايدن حلول واقعية يقدمها لقادة المملكة والدول العربية الأخرى بشأن مستقبل العلاقات الأمريكية العربية والرؤى المشتركة لدفع عجلة أمن الخليج العربي بالتعاون مع دوله وعلى رأسها المملكة؟! الحليف الاستراتيجي لبلاده على مدى أكثر من 85 عاما.
وهذا بعد أن عقد قمة سعودية ــ أمريكية مع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ركزت على العلاقات الثنائية التاريخية والشراكة الإستراتيجية المتميزة بين الدولتين والرغبة المشتركة في تطويرها في كل المجالات.
وعلى الجانب الآخر حضور السيد بايدن القمة المشتركة التي دعا إليها خادم الحرمين الشريفين قادة دول مجلس التعاون الخليجي والرئيس عبد الفتاح السيسي والملك عبد الله الثاني ورئيس وزراء العراق السيد مصطفى الكاظمي.
وهذا يؤكد للسيد بايدن (قوة) تضامن العرب تحت الراية السعودية التي تستجاب في كل الأوقات وما حدث خلال زيارة السيد ترامب يتكرر خلال زيارة السيد بايدن.
نقطة ارتكاز مهمة جدا لا بد من بيانها للإدارة الأمريكية ونحن في سياق علاقة الدولتين الراهنة أن النظام السياسي في المملكة لم يفرض من دولة استعمارية، وإنما نبع من الداخل ورعاه الملك عبد العزيز رحمه الله على مدى خمسين عاما، واتسم دائما بالانفتاح على المواطنين.
ولا بد أن نتذكر أن العلاقات مع دولة كالولايات المتحدة لا يمكن أن تسير على وتيرة واحدة بل إنها ستختلف حسب الظروف والمصالح وستتخللها خطوط وظلال، لكن في كل الأحوال هناك شعرة معاوية المشهورة التي تشد وترخى، من هذا المنطلق فإن بقاء جسور تهدف إلى دعم علاقات صداقة متينة وتحالف قوي مع أمريكا يعد أمراً مهماً يخدم المصالح السعودية - الأمريكية في الميدان السياسي والاقتصادي والاستثماري والنفطي والأمني والاستراتيجي.
والله ولي التوفيق،،،
** **
- رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة