د.محمد بن عبدالرحمن البشر
الأغلب يعلم من هو المعتمد بن عباد، أحد حكام الاندلس المشهورين، وأبرزهم على الإطلاق، حكم إشبيلية، بعد وفاة ابيه، وهو أديب وشاعر رقيق، التف حوله نخبة من الشعراء البارزين، منهم الوزير أبو الوليد أحمد ابن زيدون، شاعر الأندلس المميز، والسياسي البارز، ومنهم الشاعر عبد الجليل ابن رهبون، وأبوبكر ابن عمار الوزير والشاعر وخليل المعتمد بن عباد، ومنهم الحصري، وابو بكر بن الملح، وغيرهم كثير، والمعتمد في ذاته لطيف رقيق المشاعر، ظهر ذلك في سلوكه وشعره وقد جمع ثمانمائة جارية في قصره، واعتاد على التغني بالنساء والطبيعة والزهور والورود، وكل ما هو جميل، كما أنه قد بنى قصراً رائعاً مازال ينطق باسمه، حتى عصرنا الحاضر، وفيما يبدو انه إن شاء الله سيستمر سنوات عديدة قادمة، ويزوره في العام الواحد في المتوسط مليون زائر يدر على إسبانيا الكثير من المال، لكن صروف الدهر لا تدوم على حال، ومآلها إلى زوال، كانت نهايته مؤسفة، وحلت به نكبة مؤلمة، كما رافق مسيرة حياته أيضا الكثير من التعامل البشري الرائع والسيئ، الذي يختلف من شخص إلى آخر طبعاً لأخلاق الناس وطباعهم وجبلتهم التي جبلوا عليها، وذاق من ذلك حلوها ومرها.
الموقف الأول موقفه مع صديقه وقت طفولته، وصباه، وشبابه، واللصيق به أقرب من جلده بلحمه، وهو أبو بكر ابن عمار وزيره الشاعر الرقيق مثله، وهم يشتركون في كثير من السلوكيات من تغليب الهوى، والانقياد للملذات، وبعض الصفات مثل الطيبة والكرم، وكان ابن عمار عند المعتمد وزيراً مدللاً مقرباً، مما جعل زوجة المعتمد اعتماد الرميكية تحمل في قلبها حقداً على ابن عمار وهي فيما يبدو تتصف بصفات أخلاقية تختلف عن ما عند زوجها فقلبها دائماً مليئاً بالغيرة والحسد، وطرد المنافس من النساء والرجال، ودفعها إلى ذلك حب المعتمد لها وتقريبه لها، وذات يوم ارسل المعتمد بن عباد صديقه ووزيرة ابن عمار في مهمة إلى مدينة شلب إحدى المدن الأندلسية التابعة لحكم اشبيلية، وذهب إلى هناك مع اسرته، وبعض معاونيه، وأنهى مهمته على اكمل وجه، لكن طمع، أو وربما أيضا استمع إلى نصائح بعض مما حوله من اهله ومعاونيه أن يختص وينفصل بشلب عن المعتمد، ويصبح حاكماً مثل حكام الطوائف الآخرين، ويبدو في الحقيقة انه ليس من طبعه الغدر، ولا من ذلك النوع الذي يخون أمانة صاحبه، لكن أحيانا القلوب الطيبة يسهل تسخيرها لمن أراد الاستفادة منها، ولأنها عاطفية فقد يكدر صفوها كلمة أو موقف، فيسهل توجيهها وهي في تلك الحال، فلما علم المعتمد بفعل خليله ووزيرة وصديقه ابن عمار، استشاط غضبا، فغدر الصديق أقسى ما يمكن للإنسان أن يواجه في حياته، وارسل إليه المعتمد من يقبض عليه، ودفع في ذلك اموالاً طائلة، وبعد حين، ومحاولات عديدة استطاع أحدهم أن يقنع بعض رجال حمايته وتم له ما أراد بالقيض عليه، وأخذ ابن عمار مع أسرته إلى المعتمد، وهذا الموقف من ابن عمار موقف لا شك غير أخلاقي وخيانة الصديق لا يمكن قبولها، ولا يمكن جعلها تمر دون ألم هكذا، لاسيما انها تمس منطقة من مناطق اشبيلية.
الموقف الأخلاقي الآخر هو موقف المعتمد بن عباد بعد أن ظفر بصديقه الحميم ووزيرة الذي خانه، وحاول أن يختص بأحد مدن مملكته، فلم يقتله على الفور، وترك مساحة للتفكير، وأدخله السجن، وظل في السجن فترة، وقلبه يذكره بتلك العلاقه الخاصة بينهما ولا ريب في ذلك، فإن القلب الطيب يبحث عن عذر للتسامح، وتجاوز عثرة الصديق، وربما انه هنا قد قارن بين طبعه واخلاقه، وبين أخلاق والده المعتضد بن عباد، الحقود الغادر القاسي، الذي جعل حديقة خلفية في قصره من رؤوس من قتلهم من أعدائه، ومكتوب على كل رأس اسم صاحبه، لغرض التشفي كما يقول ابن الخطيب، وقد كان ابن عمار يرسل للمعتمد رسائل استعطاف رقيقة، والكرام يبحثون عن طارفة تقودهم إلى العفو، لأنهم جبلوا عليه، وكأني به قد قال : ملكت فأسجح، ورق قلبه، وذهب ما به من غضب، ففرح ابن عمار وافشى ذلك إلى أحد المقربين، الذي أوصله إلى الوزير، لكن زوجته اعتماد الرميكية الحقودة، ووزيره أبوبكر بن زيدون، وهو ابن ذي الوزارتين أحمد الشاعر المشهور، الذي يخشى منافسته، اوغرا قلب المعتمد، وابلغاه بما سمعا ، ففعل ما ليس في طبعه، وقتل خليله ووزيره، وندم بعد أن سبق السيف العذل.
موقف أخلاقي آخر، للحصري الشاعر، فقد وافى المعتمد، وهو في الطريق إلى أغمات بالمغرب، وقد قبض غليه ابن تاشفين المرابطي بعد أن هزمه، وأخذه اسيراً ذليلاً، وقد كان قد أعد قصيدة مديح للمعتمد قبل نكبته، فسلم عليه الشاعر الحصري وهو في حاله تلك، فقرأ عليه القصيدة، ومدها إليه، فقال المعتمد له: مد يدك تحت الفراش ففيها صرة مال خذها فوالله لا أملك غيرها، فأخذها، وهذا موقف دنيء، وقبيح، أن تأخذ المال من ملك منكوب، هو أحوج ما يكون إليه، لكنه نبل ملك كريم، ودناءة شاعر لئيم، والناس معادن.
والموقف الاخلاقي الأخير، كان من ابن تاشفين الذي أودع المعتمد في السجن، ورجلاه مصفدة في الحديد، وهذا ليس فعل الكرام بالكرام، فكان الأولى أن يبقيه حراً في منزله، أو في مدينة أغمات، لكن كل ميسر لما خلق له، وسائر بما جبل عليه، والله المستعان.