مشعل الحارثي
في مرحلة الطفولة الجميلة ونحن لانزال صفحة بيضاء لم تكدرها شوائب الزمن، وفي ظل وطن يكبر، وآمال تتمدد، وأحلام تتوسد السماء، ومع دخول التلفاز ولأول مرة في حياتنا في أوائل الثمانينيات الهجرية أطلت علينا معه برامج الرسوم المتحركة والعديد من الأفلام الأجنبية غير المترجمة وقصص الأطفال المصورة التي دخلت بيوتنا بدون استئذان وامتلكت عقولنا وألهبت مشاعرنا وأسرتنا بشخصية (البطل) القوي صاحب المثل، ولا أعتقد في ذلك ضير، لأن زمن البطولة لم ينته بعد، ولأننا نحن العرب أمة مفتونة بالبطولة والشجاعة بصورتها الراقية المتدثرة بالشيم والقيم السامية والأخلاق النبيلة التي تجري في دمائنا منذ عهد أجدادنا الأوائل الذين بنوا وأسسوا الحضارات الأصيلة شرقاً وغرباً، الا أن تكريس مفهوم (البطل) وفي أغلب هذه البرامج والقصص المصورة وطوال تلك السنوات وما تلاها فرضت طقوسها على ذاكرتنا بما داخلها من أفكار مسمومة ودعاية لآلتهم ومعتقداتهم وأساطيرهم الوثنية، فمن رجل البحار (باباي) الرجل القوي صاحب المغامرات مع عدوه اللدود (بلوتو)،و(توم وجيري)، إلى رجل الستة ملايين دولار، والرجل (الوطواط) و(البرق) والبطل الفولاذي الخارق (سوبرمان) وغيرهم ممن أثروا فينا وكبروا في مخيلتنا وأكبرنا فيهم أنهم أنصار الضعفاء والبسطاء وحراس للخير والعدل والسلام، وأنهم إعصار مدمر في وجه الشر والظلم والاستبداد، بل أصبحوا معنا طول الوقت واحتلت صورهم وأزياؤهم ومجسماتهم حجراتنا وزينت سياراتنا.
وذهبت بنا الأيام وهي تعد علينا العمر وسنواته لتدخل ذاكرتنا بعد ذلك العشرات والعشرات من الرسوم المتحركة الجديدة والقصص البوليسية والمسلسلات والأفلام السينمائية الأخرى التي استحوذت على أفكارنا ونحن في مرحلة الشباب كأفلام (الكابوي) وصولاً إلى (رامبو) و(روكي) والتي سارت على نهج من سبقها وأفصحت عن مراميها الحقيقية في تجسيد حقيقة (البطل الأوحد) الذي لا يهزم ولا يخسر معاركه أبداً، بل ولنكتشف فيما بعد الأيادي القذرة والخفية التي تقف وراء تمويل وصناعة مثل هذه الأفلام وما تدسه من دسائس وتروج له من أفكار فعرفنا أن (توم وجيري) يروج لقضية حق اليهود في فلسطين، وأن فيلم الغربان (دامبو) يجسد التمييز العنصري للأصل الأفريقي، و(أبطال الننجا) يروج لثقافة العنف والبطش والتدمير، وثالثة الأثافي خروج (سوبرمان) في نسخته الحديثة ليعلن على الملأ سقوطه الأخلاقي الذريع بترويج الشذوذ والمثلية الذي لا تقبله الا الشعوب الساقطة والخارجة من حسابات الحياة والوجود الإنساني، وربما تكون مثل هذه الأمور طبيعية وغير مستغربة على شعوبهم وهي التي ارتضت لنفسها وديمقراطيتها قبل ذلك أن تطلب كلباً للإدلاء بشهادته في انتخابات البرلمان، أو يكون الكلب هو أحد الأسباب المرجحة لانتخاب رئيس الدولة، فماذا ننتظر بعد من أمثال هذه الحضارة ومن خلخلوا في أذهاننا تلك الصورة المثلى للبطل التي طالما سرت في خيالنا رمزاً للقدوة والقيادة الحكيمة والنخوة والشهامة.
وللحق والإنصاف فنحن لا ننكر أنه كما أمتعتنا هذه الرسوم والأفلام لفترة من الوقت وشكلت فضاء خصباً للخيال وتنمية الحس الجمالي والاستفادة من تلك المدبلجة في تقوية اللغة العربية رغم سوء الدبلجة في بعضها، الا أن آثارها السلبية كثيرة جداً ولا يتسع المقام لسردها ولكن يكفينا أنها وافدة إلينا ونابعة من مجتمعهم وتحاكي عاداتهم وتقاليدهم هم ولا تمت لمجتمعنا وبيئتنا بأي صلة تذكر، وهو ما جعلني أتساءل هل تأخرنا كثيراً في غرس ثقافة مضادة في أجيالنا ضد هذا العفن الوافد إلينا تقوم على حب الحياة وتعزيز العقيدة الإسلامية والولاء للوطن؟ وأين تقف مسؤولية التربية والإعلام في تنوير الأجيال باستمرار وفضح مثل هذه الأفكار المضللة. ولله در أميرنا المحبوب الشاعر خالد الفيصل عندما انتفضت كلماته فصور لنا بكل دقة ما يحاك ضدنا وضد العرب عموماً وخاصة ما يوجه من سهام لأجيال المستقبل من دسائس ومخططات لتضليل أفكارهم وزعزعة عقيدتهم وتقويض قيمهم الأصيلة بعد أن فضحت كل ألاعيبهم ومخططاتهم مع جيل ما يعرف بجيل الصحوة والظلاميين والانتحاريين، حاثاً سموه أصحاب الفكر والعقول للاستفادة من تجارب الماضي وعدم إفساح المجال لهم لإشعال نيران الفتن ونشر الفساد ونكون دوماً على أهبة الاستعداد لمواجهتهم وتبيان أفكارهم الهدامة فيقول:
والمخطط نشر فوضاه بين الجهل
والمجاهد نحر نفسه بسوق الضلال
وكل باغي تنصب بالجرايم بطل
واجرم الجرم تلبيس الجرايم عقال
بين أهل العمايم و الملاحد غزل
والهدف لابس البشت الموشى باعتدال
لا تخلونها للي غزلها وفتل
ما يغطي بشمسه ما دفن بالظلال
التجارب دروس اللي براسه عقل
ما بقي للتغاضي عن خطرها مجال
وختاماً أقول: إنه في زمن الشطح والردح والنطح والقبح والفوضى والعبثية والخروج عن النص، وإن خدعنا بعض الوقت فلن نخدع كل الوقت وأن ستارة المسرح قد انقشعت ولن تغلق أبداً، كما تأكد لي أن من يؤمن برسالة الفن الحقيقية في ترسيخ قيم الحب والجمال والانتماء والخير والإنسانية في هذا العالم هم قلة قليلة، وماعدا ذلك فهو لا يخرج عن كونه مسخا بمخالب عدوانية شيطانية، وأن صورة البطل الحقيقية لاوجود لها وسط هذه الأفكار الخبيثة ومثل هذه العوالم.