منصور بن صالح العُمري
حين يتكئ التاريخ على شرفة الواقع يسبر أحداثها ويمِيز أشخاصها ليختار الأنسب لدور الريادة في وقائع العصر فإنه لا يلقي نظرة عجلى على من يصدع بقول جذاب أو يظهر بصورة لافتة، بل يرمي بثاقب بصره إلى سنوات مضت لينظر في بدايات من اختارهم للمفاضلة، فبروز الحاضر إن لم يكن مبنياً على أساس متين من التربية القويمة والثقافة السليمة والترفع عن شهوة الظهور فإن عثرات الطريق تخفي خلفها حفر النسيان ودهاليز الفشل فتخفت أنوارهم بعد بريق خادع وتذهب أصواتهم فلا يسمع لها صدى ويكونوا أثراً بعد عين. وهؤلاء لا يلقي لهم التاريخ بالاً، بل يتابع بشغف من صنع منذ نعومة أظفاره ليكون قائداً ولعلي أتذكر ما قالته هند بنت عتبة رضي الله عنها حين كان ابنها معاوية بن أبي سفيان طفلاً صغيراً لكنه تميز بصفات كأكمل الرجال عقلاً وفصاحة فزارهم رجل فأعجب به وقال حري بهذا الصبي أن يقود قومه فصرخت أمه هند وقالت ثكلته إن لم يسُد إلا قومه، بل يسود الناس ومعاوية يسمعها فتبني في نفسه مزيداً من الطموح دون أن تثقل نفسه بغرور يقعده. قبل أكثر من عشرين عاما وكنت حينها مديراً عاماً للإدارة العامة لرعاية الأيتام فتلقيت اتصالاً من مكتب والد الجميع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان أمده الله بتوفيقه حين كان أميراً لمنطقة الرياض حدثني خلالها أحد منسوبي مكتبه مفيداً أن والد الجميع يرغب بتنظيم زيارة لأبنائه الكرام أصحاب السمو الملكي محمد وأشقائه لعدد من دور الأيتام ومراكز أصحاب الهمم مشيراً إلى أن فضيلة الدكتور عبدالله الشثري سيزورنا لترتيب برنامج متكامل للزيارة وفعلاً حضر الدكتور وتم الاتفاق على برنامج متكامل بدأ بزيارة دار الحضانة للأيتام في مرحلة الطفولة المبكرة ثم توالت الزيارات بعدها لعدد من الدور والمراكز والذي شد انتباهي أن توجيهاً صارماً من خادم الحرمين الشريفين ألزمنا بعدم بث تقرير إعلامي عن الزيارة رغم إعداده من قبلنا خاصة وأن الزيارة لم تقتصر على حضور فحسب بل تضمنت عدداً من المكرمات شملت هدايا قيمة للحالات وإنشاء مراكز تعليمية راقية في الفروع التي زارها وتزويج عدد كبير ممن بلغ سن الزواج من ذوي الظروف الخاصة ودعم مادي ومعنوي فوري للحالات التي عرضت على سموه وظل هذا الكرم طوال عملي وكان التوجيه بمنع البث الإعلامي مصحوباً بقاعدة تربوية تعلمنا منها جميعا أعظم الفوائد حيث قال حفظه الله أردت هذا البرنامج ليبني فيهم حب الخير ولعرفوا نعمة الله عليهم فيشكروها ويتسابقوا لمد يد العون لكل محروم والبث الإعلامي قد يولد غروراً ولا يبني دافعاً للعمل الجاد، ثم كان البرنامج واقعاً والتقيت بصاحب السمو الملكي الأمير محمد وإخوته الكرام وأبهرني ما وجدته فيهم من وعي يسبق سنهم وثقافة يستحيل أن تبنيها مناهج التعليم الذي يمرون بمرحلته فعلمت أنهم يحظون ببرنامج ثقافي وتربوي كبير جدا يشرف على اختيار القائمين عليه والدهم حفظه الله بنفسه ويولي مضامينه اهتماما فائقا رغم مشاغله التي لا تنتهي لم أكن أشعر أني أحاور دارسين في مراحل التعليم العام كان الحديث راقياً في مستواه مبهراً في الآراء التي يطرحونها حتى في مجال عملنا الذي تخصصنا فيه سنوات طوال ثم لا يلبث الحوار أن يأخذنا إلى مجال آخر من مجالات المعرفة والعلم والإبداع فلا نرى إلا عجباً ولا يرى منا إلا إعجابا ثم راعني ما وجدته منهم من حرص على الدعم المفتوح في أي شأن يخص هذه الفئات العزيزة على أنفس الجميع ومبادرتهم في الدعم قبل الطلب أحيانا ثم اطمئنانهم لاحقاً إلى كفاية ما قدم أو الحاجة إلى مزيد دعم ولعل الصورة أضحت واضحة عن التنشئة القويمة التي بذلها خادم الحرمين الشريفين بارك الله في عمره ولا شك أن ما تبع تلك المرحلة العمرية من إعداد تربوي قويم كان يفوق ما سبقها ولا شك أيضا أن كل جهد يبذل يذوب ما لم يسبق ويصحب بتوفيق الله أولاً ثم الاستعداد الشخصي الطموح لدى المتلقي وصبره على ترك ملذات الصبا والشباب وحب الظهور الذي قل أن تسلم منه نفس بشرية وحين ظهر صاحب السمو الملكي ولي العهد وفقه الله في أول لقاء علني في مقابلة تلفزيونية أخذ بألباب مشاهديه الذين لم يتوقعوا منه هذا الظهور اللافت واستحضار الأرقام والأدلة والشواهد بشكل لا يجيده من كان تلقيه وقتياً وبإعداد غيره ليكون طرحه لها متلعثما حين يحاول استذكار ما جمع له أما سموه فقد تحدث بمنطوق الواثق الذي تشرب الثقافة من ينابيعها الصافية وأصبح بمقدوره أن يميز العذب من الآسن والغث من السمين ليضيف جديداً ويقوم معوجاً وما أجمل أن يتحلى من هذه ثقافته بشخصية حازمة حين يتطلب الموقف ذلك عطوفاً وقتما يستوجب الأمر عطفاً متحلياً بالصبر فلا يستعجل أمراً قبل أوانه فلا غرابة أن يقطف ثمرة جهده ويصل إلى مبتغاه حين يرسم خطة طريق إليه يراها الكثير ممن حوله ضرباً من ضروب الخيال وسراباً بقيعة في أعينهم الظمى لكنه يرسم خطوات الوصول إليه بكل ثقةفلا يعيقه ما يواجه من صعوبات يظن مبغضو نجاحه أنها نهاية الطريق فلا يلبث إلا أن يلجمهم ثم لا يلبث أن يفاجئهم بخطوة أكبر وثباً وأكثر ثقة وأبهر إبداعاً لم يسبق إليه وكل ذلك في فترة زمنية وجيزة يحتاج غيره إلى عقود ليحقق بعض منجزاته حتى دان لرؤيته أعتى الخصوم وأكثرهم أدوات وأجمعهم قوة مادية وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء كتب الله على يدي سموه ما يرفع به درجاته ويزيد محبته في القلوب ويجمع على يدية أمته ويدفع بالوطن للريادة في شتى مجالات الخير.