علي صالح علي الفهيد
في غرة شهر ذي الحجة 1443 انتهت الامتحانات فأغلقت المدارس أبوابها، وقال الطلاب ما لها؟ فنادى منادي التعليم من برجه العاجي ليحدث أخبارها: إن الدراسة انتهت، اليوم تجزون بما درستم وتعبتم وصبرتم في الأيام الخالية، اليوم يوم الجزاء الأوفى: بشارة للناجحين وحسرة وندامة للراسبين الذين ضيعوا وفرطوا في جنب دراستهم. اليوم تبيض وجوه الناجحين وتسود وجوه المقصرين. اليوم تعتق رقابكم من أطول سنة دراسية في تاريخكم التي مرت على الفصول الأربعة، ففروا إلى المرح والسرور والحبور وتمتعوا بإجازة راضية مرضية. حينها تنفسوا الصعداء وانطلقوا إلى ظل ظليل، وهواء عليل، ومرافقة صديق وخليل.
يا أيها الذين درسوا واجتهدوا وتحملوا، اسمعوا وعوا: إن الدراسة الحقة لا تنتهي بنهاية الامتحانات وإغلاق المدارس، إن الحياة مدرسة أكبر من مدارسكم الإسمنتية لكنها بلا جدران، لا تحدها حدود الزمان والمكان، تبدأ فور ولادة الإنسان، فيستعمل حواسه الخمس ليتعلم، وشيئاً فشيئاً يتعلم من المحيطين به، ثم يدخل مقرات التعليم كالمدرسة وغيرها فيزداد علماً. إننا نتعلم من جميع مناشط حياتنا في كل زمان ومكان تجارب وخبرات وعلوماً وغيرها. منا من يجتهد أكثر فتراه يتأبط كتاباً أينما حل وارتحل في كل زمان ومكان، يقرأ كتابه قبل أن يكون عليه حسيباً.
إن التعليم لا ينحصر في زمان أو مكان ولا يتوقف بإغلاق المدارس أو تعليقها، هو من المهد إلى اللحد.
الكثيرون لا يريدون أن يتعلموا ولو أرادوا أن يتعلموا لأعدوا العدة ما استطاعوا إلى العلم سبيلاً لكن الشيطان ثبّطهم، وقال لهم اقعدوا مع القاعدين. لو أرادوا أن يتعلموا لم يهملوا القراءة، ولم يتمتعوا بتقطيع الكتب بعد نهاية الامتحان، ويجعلوها في مهب الريح! ولم يطلِّقوا الكتب طلاقاً بائناً بعد تخرجهم ويجعلونها نسياً منسياً!
الكثيرون يخادعون أنفسهم بقشور القراءة التي لا تسمن ولا تغني من جهل مما يسمى مواقع التواصل الاجتماعي، فيمنون أنفسهم بعلم غزير منها، لكنها غثاء كغثاء السيل، ومع تعدد أشكال القراءة؛ لتطور وسائل الاتصالات والتقنية يبقى الكتاب الورقي بحراً آمناً لا ساحل له، أنى غرقت فيه فلن تمت؛ لأن القراءة حياة بين دفتي كتاب، وحياة واحدة لا تكفي!
الكتاب ليس مجموعة من الأوراق والصفحات، صفت عليها الحروف والكلمات، وزينت بصور وألوان وخطوط، بل هو مجموعة من العلوم والمعلومات والتجارب والخبرات لم يغادر منها صغيرة أو كبيرة إلا أحصاها، تأخذنا نحو ذرا المجد؛ لنعمر بها دنيانا ونكسب جنان آخرتنا.
إنه يثقل موازيننا في الدنيا تنمية وتطويراً ومن دون تفعيله بالقراءة والعمل بما فيه تخف موازيننا، فتقذفنا في الدرك الأسفل من الجهل.
الكتاب شاهد وشهيد علينا، فيه دين وتاريخ وأخلاق وغيرها، ففي ازدهار حضارتنا الإسلامية كان يوزن بالذهب ولو كتب على الحجر أو الخشب!
يا قومي أوصيكم ونفسي به خيراً، خذوه بقوة واقرؤوه بروية ولا تحركوا به ألسنتكم لتعجلوا به، فلو علمتم أهميته وتذوقتم حلاوة قراءته لجعلتم القراءة برنامج حياة لا هواية مسلية، ولا قتلاً لأوقات الفراغ! لا تتركوا الكتاب وحيداً فريداً، لا تهجروه في الدنيا فيشكوكم في الآخرة. إنه نعم الرفيق إذا عزّ الصديق، ونعم الأنيس إذا ضاقت النفوس، والتفت الساق بالساق. أنيبوا إليه وأسلموا له أنفسكم وعقولكم وقلوبكم بالاهتمام والقراءة والمطالعة قبل أن تتحسروا على تفريطكم في جنبه.
رحم الله بحر الأدب والعلوم، صاحب البخلاء والبيان والتبيين، شهيد القراءة والكتاب الذي سقطت عليه الكتب فمات جسده، وعاشت علومه وروحه، فنعم الشهادة حيث أبدع في وصف الكتاب بعبارات جامعة مانعة ماتعة: «الكتابُ هو الجليسُ الذي لا يُطريك، والصديقُ الذي لا يُغْرِيك، والرفيقُ الذي لا يَمَلُّكَ، والجارُ الذي لا يَسْتَبْطِئُكَ، والصاحبُ الذِي لا يُرِيدُ استخرَاجَ ما عندَك بالمَلَقِ، ولا يُعَامِلُك بالْمَكْرِ، ولا يَخْدَعُكَ بالنِّفَاقِ، ولا يَحتَالُ لكَ بالكَذِب. ومن لك بمؤنِس لا ينامُ إلا بِنَوْمِكَ، ولا يَنْطِقُ إلا بما تَهْوَى، آمَنُ مَنْ في الأرضِ وأكتم للسر مِنْ صَاحِبِ السر».