عجيب هذا العالم المختبئ عن الأنظار، الحاضر في ذاكرة كل الأمم والشعوب، العالم الموازي للإنس: عالم الجنّ الذي يعبر عنه تارة بالقوى الغيبية وبالأشباح، وتارة أخرى بالجنّ والشياطين والعفاريت. وفي الثقافة الشعبية المجتمعية يعادل الغول وينحصر في أم الخون والسعالي... وقد عقدت فصلاً عن الأمثال العربية في رسالتي قصص الجنّ في التراث العربي حتى نهاية القرن الخامس الهجري (دراسة إنشائية) عام 1440هـ فلحظت انفصالاً بين ما دوّن وبين ما نعايشه في هذا الزمن. ثم تأملت حضور الجنّ بمفرداتها الدالة في كتب الأمثال الشعبية فألفيتها تربو على حضورها في المصادر الأدبية، فرغبت في وضعها بين يدي القراء للمقارنة والموازنة من حيث التأثر والتأثير في هذه المقالة الموجزة لما للأمثال من أثر في الإنسان وتسيير خطاه وسلطة توازي سلطة المقدّس.
أولاً- كتب الأمثال العربيّة:
حظيت قصة خُرافة - من بين الأمثال الدَّالة على قصص الجنّ - بورودها في أغلب كتب الأمثال بصيغ متعدِّدة قالت العرب: «أمْحَلُ مِن حديث خُرافة(1)». وقالت: «حديث خُرافة[. . .]حين كذّبوه، قالوا لا يمكن: حديث خُرافة(2)»، ووردت بصيغة «أكذبُ من خُرافة(3)» ومن الأمثال العربيّة ما ورد على لسان الحيّة «كيف أُعَاوِدُك، وهذا أثرُ فأْسِك؟(4)»، وفي الحيّة-أيضاً- قيل:«كالأرقم إنْ يُقْتل يَنْقَم، وإنْ يُترك يَلْقَم(5)». (ما هو إلا شيطان الحَمَاطة) لقبيح المنظر. والمراد بالشيطان هنا: الحيّة(6). وفي زعمهم أنَّ الجن تصدَّ البقر عن الشرب، حين قالوا:«كالثَّور يُضربُ لمّا عافتِ البقرُ(7)» وعُنيت الأمثال بما فيه تخويف جسدي: «أقبحُ مِن الغُول(8)». «جاء بأمِّ الرُبَيْق على أُرَيق(9)». «إلاّ دِهْ فلا دِه»: أصله مِن قول الكاهن الذي سافر إليه عبد المطلب، وحرب بن أميّة، وقد خبَّأوا له رأس جرادة في خرز مزادة، وجعلوه في قلادة كلبٍ، يقال له سوار، فقال: «خبّأتم لي شيئاً طار فسطعْ، فتصوَّب فوقعْ، فقالوا: لا دهٍ(10)، قال: هو شيءٌ طارْ، فاستطارْ(11)، ذو ذَنَبٍ جرّارْ، وساقٍ كالمنشارْ، ورأس كالمسمارْ، فقالوا: لا دهٍ. فقال: إلا دهٍ فلا دهٍ هو راس جراده، في خَزْر مزاده، في عُنق سوارٍ ذي القلاده. قالوا: صدقت(12)». ومن الأمثال المدونّة بأسباب شخصيّة. «الحُمّى أضرعتني إليك(13)» في رجل اضطر للجنّ بسبب الحمّى.
وقد تركت هذه الأمثال والقصص المنطوية خلفها قيمة أدبية تجلّت في جودة السّبك، وفي إيجاز العبارة، وإضفاء سمة السيرورة والانتشار عليها؛ لانضوائها تحت :(أَفَعَل) التفضيل في: أقبحَ، وأمحلَ وأضلَّ. ودلنا بعضها على الاعتقاد السائد في البيئة العربيّة الجاهلية، وعلاقتها بالقُوى الغيبية، وقد رتبَّتْ بعض كتب الأمثال أبوابها على (أفعل) ككتاب: سوائر الأمثال على أفعل، لحمزة الأصفهاني (ت 439هـ).
ثانياً- كتب الأمثال الشعبية:
حين نطالع في مصادر الأمثال الشعبية نجدها كذلك حافلة بالأمثال التي تحكي واقعهم ومعرفتهم بها وقد عثرت على ما يقارب 67 مثلاً بعضها يروى بروايات مختلفة وأصله واحد، في مصدرين هما أحفل المصادر بالأمثال الشعبية الأول: الأمثال الشعبية في قلب جزيرة العرب لعبد الكريم الجهيمان المطبوع عام 1398هـ، والثاني: الأمثال العامية في نجد لمحمد بن ناصر العبودي المطبوع 1399هـ رحمهما الله، وترتد غالب هذه الأمثال الشعبيّة إلى الثقافة الدينية، وبعضها الآخر القليل يرتد للخرافة والأساطير، فمن القسم الأول:
1- إبليس حريص. انظر: الجهيمان ج 1ص35. ويروى: إبليس. ج 4ص88.
2- إبليس ما مات. انظر: الجهيمان ج 1ص35. ويروى: الشيطان ج 4ص87.
3- لإبليس. انظر: الجهيمان ج 1ص35. وقد سمعت المثل مراراً وتكراراً بصيغة: في بليس بمعنى إلى الجحيم وأظنه أوفق وأدقّ.
4- أخاف يوزك المدحور. انظر: الجهيمان ج 1ص80.
5- قلان خزّه المدحور. انظر: الجهيمان ج 5ص98
6- خزّه إبليس. انظر: الجهيمان ج 3ص31.
7- إذا دخلت الملائكة خرجت الشياطين. انظر: الجهيمان ج 1ص98.
8- أذل من إبليس يوم عرفة. انظر: الجهيمان ج 1ص117. العبودي رقم المثل77 ص 78.
9- ضراط الشيطان يوم عرفة. انظر: الجهيمان ج 4ص180.
10- طقاع سكن. انظر: الجهيمان ج 2ص6
11- إذا دخل القارئ صاح الجني. انظر: الجهيمان ج 1ص252.
12- أمل إبليس في الجنة. انظر: الجهيمان ج 1ص361.
13- أم بلابها الشيطان. انظر: الجهيمان ج 1ص366.
14- الباب كعام الشيطان. انظر: الجهيمان ج 2ص6
15- بسم الله جن وثيثة. انظر: الجهيمان ج 2ص26
16- جن على هجن. انظر: الجهيمان ج 2ص217
17- الحسد طلّع إبليس من الجنة. انظر: الجهيمان ج 2ص376
18- كل إبليس خربه الله. أي مصيره الخراب.
19- راقص بينهم المدحور. انظر: الجهيمان ج 3ص161
20- شيطان طربه وحّدر به. انظر: الجهيمان ج 2ص6. أحسبها طار به. وحدّر في تقابل بينهما.
21- فلان عود جنّ. انظر: الجهيمان ج 5ص129
22- فلان فيه نفس وهوى شيطان. انظر: الجهيمان ج 5ص223
23- كرم إبليس من الفليس. انظر: الجهيمان ج 6ص37. وهذا لا يخالف المثل التالي بشأن تعب إبليس من الفليس لكثرة حيلة للخلاص منه، إذ هذا المثل متأثر بحض إبليس الناس على التبذير.
24- عيال السعلوه سعلوه. يشبهونها بالمرأة العجوز المخيفة. انظر: الجهيمان ج 4ص445
25- غاب الشيطان وحضر الرحمن. انظر: الجهيمان ج 5ص8 ويروى: فلان غايب شيطان. نفس المصدر: ج 5ص130.
26- غايب شيطانه. انظر: الجهيمان ج 5ص12 ويروى: غايب شيطانه. انظر: العبودي رقمه1416 ص 893.
27- ما عنده من الشيطان طاري. انظر: الجهيمان ج 7ص98
28- كنه شيطان حجرف. انظر: الجهيمان ج 6ص169
29- لعن الله إبليس ومن تبعه. انظر: الجهيمان ج 6ص280
30- ما يدخل بين اثنين إلا الشيطان. انظر: الجهيمان ج 7ص202
31- مثل الجني يشوفك ولا تشوفه. انظر: الجهيمان ج 7ص294
32- معشش في قلوبهم الشيطان ومفرّخ. انظر: الجهيمان ج 8 ص83
33- من تفل شيطانه أرضى رحمانه. انظر: الجهيمان ج 8 ص134
34- من تفل شيطانه قرى ضيفه. انظر: الجهيمان ج 8 ص134
35- من خاف من العفريت طلع له. انظر: الجهيمان ج 8 ص155
36- النسا حبايل الشيطان. انظر: الجهيمان ج 8 ص317
37- الوحيد خويه إبليس. انظر: الجهيمان ج 8 ص23
38- الوحيد لهيد. انظر: الجهيمان ج 8 ص38 وفسر بمعنى مرهق ومتعب. وأظنه محرف عن هبيد شيطان عبيد بن الأبرص وهو هبيد بن الصلادم كما ذكرته كتب الأدب أمثال: جمهرة أشعار العرب للقرشي.
39- الهوى والنفس والشيطان هم أعداء الإنسان. انظر: الجهيمان ج 9 ص112
40- يطير به الشيطان. انظر: الجهيمان ج 9 ص267
41- جته جنيته. انظر: الجهيمان ج 10 ص95
42- حجره حجرة جني. انظر: الجهيمان ج 10 ص105
43- الهوى يهويك والشيطان يغويك. انظر: الجهيمان ج 10 ص360
44- إبليس الأباليس. انظر: العبودي رقمه21 ص41
45- بسم الله على من راعك وأدخل الجني في كراعك. انظر: العبودي رقمه389 ص264.
46- المشي مشي الرحمن والركض ركض الشيطان. انظر: العبودي رقمه2249 ص1352. ربما تشير إلى حديث (مِشية جنّي ونغمته).
47- همزة إبليس. انظر: العبودي رقمه2672 ص1602. مفرد همزات المذكورة في القرآن.
48- المهبول مرفوع عنه القلم. انظر: الجهيمان ج 1 ص310
49- المهبول ما بغى شاله. انظر: الجهيمان ج 8 ص271. إذا اعتبرنا الممسوس معانا من الجنّ.
أما الأمثال التي ترتد للأساطير والخرافات فقد أحصيت منها التالي:
50- إذا شفت أعور ذكرت إبليس. انظر: الجهيمان ج 8 ص31 ويروى: كل أعور من إبليس انظر: الجهيمان ج 6ص54 بمعنى الشبه.
51- خشم إبليس ساكنه إبليس. وهو خشم عبد اسمه خميس له أنف كبير يؤذي الناس. انظر: الجهيمان ج 3ص33. وهو مأخوذ من بيات الشيطان في الخيشوم كما في الحديث النبوي.
52- قالو ويش أقوى منك يا إبليس قال الرجل الفليس. لأن المفلس يستعمل جميع الحيل. انظر: الجهيمان ج 5ص265.
53- كدّ إبليس ولها. انظر: الجهيمان ج 6 ص31. وهذه من المعتقدات الخاطئة في توان إبليس عن لإيذائه للبشر والكفّ عنهم؛ لكنها أذيعت في المجتمع لبيان ما لحق الناس من ضنك في زرعانهم.
54- لا غريب إلا الشيطان. انظر: الجهيمان ج 6 ص241.
55- ما مع الجنّ مثل وليدي. انظر: الجهيمان ج 7 ص164. رد على اعتقاد سلامة ابنها من الجنّ لقبحه الذي لا يدع فيه مطمعاً.
56- مثل الجني إذا شاف الذيب. انظر: الجهيمان ج 3 ص293 ويروى تقل جني شاف ذيب. انظر: الجهيمان ج 10ص84.
57- من يقدر يقول للغول عينك حمرا. انظر: الجهيمان ج 8 ص255
58- مجنون وطق بعصا. انظر: الجهيمان ج 8 ص31
59- مجنون ومتعاف. انظر: الجهيمان ج 8 ص31
60- مجنون وفي يده حجر. انظر: الجهيمان ج 8 ص31
61- المهبول ما ينسى سالفته. انظر: الجهيمان ج 8 ص271
62- مهبول ويحسبون له عقل. انظر: الجهيمان ج 8 ص271
63- جني بدو. انظر: الجهيمان ج 10 ص360. انظر: العبودي رقمه 554 ص 365.
64- الجني وابن شمس. انظر: العبودي رقمه 556 ص 366.
65- فلان سعوط المجانين. انظر: الجهيمان ج 5 ص111. ربما من جهة قوته على مواجهتهم، وقد تكون مبالغة في الشر.
ونلحظ في الأمثال الآتية مصدرها القرآن أو الحديث النبوي بلفظها الصريح التي ظنها بعض العوّام أمثال تروي وتحكي وليست من الأحاديث والآيات في شي لجهلهم، لذا عدّها المؤلف من أمثالهم لاعتماده على المشافهة في تدوين أمثاله.
66- نعوذ بالله من الشيطان الرجيم. انظر: الجهيمان ج 1 ص337
67- العجلة من الشيطان. انظر: الجهيمان ج 4 ص38. انظر: العبودي رقمه1272 ص 808.
68- إبليس يجري من آدم مجرى الدم. انظر: الجهيمان ج 1 ص35.
وبعد: فقد تبيّن لنا تفوّق الأمثال الشعبيّة على الأمثال العربيّة في الكثرة والتنوّع في حين اقتصرت موضوعات الأمثال الفصيحة في العجيب والغريب كقصة خرافة بوصفها مصدر إعجاب، أو من تشكل الحية في أدوار التخويف والأذية للبشر. كما بدا كذلك تفوق كتاب أمثال الجهيمان على أمثال العبودي من حيث تعدد موضوعات الجن وتنوّع مصادر المثل من قرية لأخرى ومن رواية لأخرى. كما ندرك متابعة العبودي لصاحبه في كثير منها. وعلى الرغم من القصور الذي لحقهما فهما مصدران كبيران في كثيرٍ من شؤون المجتمع وطبائعه وعاداته وسلوكه وآدابه، وبحق هما منجمان لكثير من الموضوعات المتصلة بالإنسان في حدوده الجغرافية سواء في جزيرة العرب أم في نجد.
ورغم القصور الذي لحقهما فهما مصدران كبيران في كثير من شؤون المجتمع وطبائعه وعاداته وسلوكه وآدابه، وبحق هما منجمان لكثير من الموضوعات المتصلة بالإنسان في حدوده الجغرافية للذين رسماها. وأختم مقالتي هذه ببعض أوجه التلاقي بين الأمثال العامية مع الفصيحة التي وقفت عليها:
- شيطان الحماطة بمعنى التين يقابله: بسم الله جن وثيثة.
- جاء بأمِّ الرُبَيْق على أُرَيق تقابل:جنّ على هجن.
- أقبح من الغول يقابلها في الأمثال: كنه شيطان حجرف. ومثله: من يقدر يقول للغول عينك حمرا.
أتمنى أن تفتح هذه المقابلات آفاقاً وأبعاداً بين مرجعية الأمثال الشريعة ومرجعيتها الأسطورة، ومدّ المدى لمتأمل دراسة موضوع ما بين مصادر شفوية ومكتوبة، ومناقشة بعض التضارب التي تجعل مردديها في حيرة بمثل مناقشتي لبعضها أعلاه، والله المعين على كيد الشياطين وسوسته وهو حسبنا وإليه المصير.
الهوامش:
(1) الدّرة الفاخرة في الأمثال السّائرة، حمزة الأصفهاني ج: 2، ص: 389.
(2) انظر: مجمع الأمثال، الميداني، 1955م، ج: 1، ص: 195.
(3) الدّرة الفاخرة في الأمثال السّائرة، ج: 2، ص: 351.
(4) مجمع الأمثال، الميداني، ج: 2، ص: 145. يُقال المثل: لمنْ لا يفِ بالعهد.
(5) المرجع السّابق، ج: 2، ص: 145.
(6) انظر: مجمع الأمثال، ج: 1، ص: 362. ج:2، ص: 202: يضرب لمن لا يتغير شبابه على مرّ الزمان.
(7) جمهرة الأمثال، العسكري، ج: 1، ص: 288.
(8) الدّرة الفاخرة في الأمثال السّائرة، حمزة الأصفهاني، ج: 2، ص: 351.
(9) تُقال للدّاهية، وأصله: مِن الحيّات. أُرَيق: الجمل الذي لونه لونُ الرّماد. جمهرة الأمثال، ج: 1، ص: 47.
(10) لادهْ: بينِّه.
(11) استطار: تفرق وفشا.
(12) اختُلف في ضبطها، وعدَّها البغدادي من باب كلماتٍ نابت عن الفعل فَعَمِلتْ عمله، و(دِه) في كلام العرب بمعنى: صحّ، أو يصحّ، فكأنه قال: إلاّ يصحُّ فلا يصحُ أبداً؛ لكنّي أقول في المستقبل ما تشهد له الصحة. انظر: خزانة الأدب ولُبّ لسان العرب، البغدادي، ج: 2، ص: 396.
(13) مجمع الأمثال، الميداني، ج:2، ص:214، 215.
** **
د. عبد الله سعد الدريس - الدرعيّة