أ.د.عثمان بن صالح العامر
أحياناً يكون الدرس الحياتي الذي يمر عليك، أو تسمعه أشد وقعاً، وأعمق أثراً، في مسيرتك الحياتية من تلك الدروس النظرية التي تلقيتها منذ صغرك وحتى علاك الشيب، ولذلك شاع في قاموسنا المحلي مصطلح (علمتني الحياة)، وتلقيت معارفي في (مدرسة الحياة) وكنا -في ظل السباق خلف الحصول على الشهادات العليا حين كان الإنسان يقاس بالدرجة العلمية التي حصل عليها- أقول: كنا في المجتمع السعودي نقلل من شأن التجارب الحياتية، ونعتقد أنها أقل بكثير حين توضع بالكفة الأخرى من الميزان في مقابل الدكترة. واليوم أثبتت المعايير المجتمعية، والعوائد المادية، والسمعة التسويقية أن مدرسة الحياة أهم من المدارس الأكاديمية، خاصة بعد أن انفتح العالم، وصار الكل يملك المعلومة بضغطة زر، فالقدح المعلا في عالمنا المعاصر لمن ولجوا سوق العمل منذ الصغر، وصرفوا جل أوقاتهم في معايشة البشر، والأخذ والعطاء، والبيع والشراء، فصقل عراك الأيام وتقلب الأحوال تجاربهم، ونمى خبراتهم، وأوقد أذهانهم، وأكسبهم السمعة والمال والاسم العريض في السوق.
إن ربط الشباب بميادين العمل الحر، وتربيتهم على معاركة الحياة، ومحاولة الجمع بين المسارين (الأكاديمي والحياتي) مطلب محل في عالم اليوم، فمن الخطأ أن يعيش النشء بعيداً عن واقعية الحياة، جاهلاً بكيفية التعامل مع صنوف البشر الذين يقابلهم صباح مساء، عاكفاً على كتبه، وكأنها هي عالمه الحقيقي فحسب، حتى إذا خرج بمثالياته التي كان يظنها هي الواقع اصطدم بشيء مختلف تماماً عمّا في ذهنيته التي هي أقرب للخيال منها للحقيقة.
نعم البعض من الآباء وأنا منهم لا يكلف الأبناء المشاركة في شراء متطلبات الأسرة رحمة وشفقة منه عليهم، وربما عدم ثقة بهم، معتمداً إما على نفسه أو السائق، والنتيجة الطبيعية أن هذا الابن لم يتعلم من الحياة، وفي المقابل هناك من يمتحن أبناءه منذ الصغر فيرسلهم في حوائج أهلهم، ويشاركونه أعمال المسكن البسيطة من سباكة وكهرباء وسقيا زرع ورعاية شجر ونخل، وهكذا، مثل تلك البنت مع أمها فتصبح مؤهلة للعيش في حياتها الواقعية بعد زواجها، وغالباً ما تنجح في تحقيق التوافق الأسري داخل كيانها العائلي الجديد. مثلما نجح الابن المدرب على خوض غمار الحياة بواقعية المعايش منذ الصغر لمدها وجزرها، سهلها وحزنها، في القدرة على مواجهة التحديات والتغلب عليها، دمتم بود وإلى لقاء والسلام.