د.عبدالرحمن بن أحمد الجعفري
«إنه لعالَمٌ صغيرٌ»، هذا ما تسمعه عند تجوُّلك في القارب الصغير في تلك المغارة الجميلة في مدينة «ديزني»، التي أبدعها «والت ديزني» مكاناً للترفيه عن الكبار والصغار، أبدع عالَـماً خيالياً من الألعاب، وفي تلك المغارة التي يتجول بك فيها ذلك القارب فيما يشبه النُّهَيْر الصغير، تسمع تلك العبارة تُغنَّى بصوت جميل، وتَظْهَر لك دمى بملابسها الفلكلورية تمثل القارات السبع وشعوبها، نعم.. إنه عالَـمٌ صغيرٌ عالَـمُنا اليوم.
ولكن هناك مِنَ البشر مَنْ لا يدرك أننا في عالَـم صغير متنوع الثقافات والحضارات، وهو ما يجعل هذا العالم جميلاً. وما نشهده اليوم من حرب بين روسيا وأوكرانيا ودمار واسع، يبيِّن -بما لا يدع مجالاً للشك- أن بعض البشر لا يدركون ذلك، ولا يفهمون أننا نعيش في عالَـم صغير ومترابط.
المتابع لمجريات الحرب في أوكرانيا يُصاب بالذهول؛ لغياب الحكمة والحنكة السياسية التي تُدار بها الأمور، من دون حساب لطبيعة العالم الذي نعيش فيه، وقد لا يُتعِب نفسه في تحليل الأمور: كيف بدأت تلك الحرب؟ وما الأسباب التي أدت إلى اشتعالها ومِنْ ثَمَّ تأجيجها؟ وكيف يمكن معالجة الأسباب التي أدت إليها؟....، واللاعبون الأساسيون مستمرون في إذكائها بصبِّ مزيد من الزيت عليها لكي تستمر في الاشتعال ويستمر القتل والتدمير لذلك البلد، والغريب أن الكل يعرف أن في استمرارها وتوسُّعها خطورة قد لا تتوقف عند هذين البلدين، بل قد تُحرِق نيرانُها قارة أوروبا بكاملها، وقد تؤدي إلى حرب نووية لا تُبقي ولا تَذَر.
وها نحن نشهد تلك العقوبات التي فُرضت على روسيا، والتي لم تقتصر نتائجها التدميرية على الاقتصاد الروسي فحسب، بل طالت قارة أوروبا وامتدت إلى أمريكا نفسها، وكان من نتائجها ارتفاع التضخم في تلك البلدان، والذي قُدِّر أنْ يصل فيها إلى قرابة 8 في المائة في هذا العام، وهذا المؤشر ليس مؤشراً إيجابياً على السلم والأمن العالمي، بل نذير بما هو أسوأ، وها نحن نسمع تحذيرات الاقتصاديين عن سيناريوهات أكثر تدميراً باحتمال دخول العالم في حرب عالمية شاملة وشديدة الخطورة.
المحايدون والمنصفون من رجال السياسة والفكر في الدول الغربية، ومنها أمريكا التي تقود سياسة صب الزيت على النار، يقولون إن روسيا عندها حق في معارضة انضمام أوكرانيا لحلف شمال الأطلسي! ولا بد من مراعاة تلك المسألة وأَخْذها في الاعتبار، كما أنَّ لروسيا حقاً فيما يتعرض له الأوكرانيون الناطقون بالروسية من سوء معاملة في أوكرانيا، وأن الروس صبروا سنين على زحف الغرب على حدودهم، وضَمِّ عديد من الدول المجاورة التي كانت ضمن الاتحاد السوفييتي البائد إلى الناتو، ولكنَّ وصولهم إلى أوكرانيا التي يعدُّونها الأقرب لهم وفيها مناطق كبيرة من الناطقين بالروسية، وضَمّ أوكرانيا للناتو، يمثِّل تهديداً وجودياً لروسيا الاتحادية كما عبَّر عنه وحذَّر منه الروس مراراً.
التمسُّك بالتفرُّد بالقرار الدولي وفرض السيطرة على العالم مِنْ قِبَل دولة واحدة، بحجَّة أمنها القومي، مفهوم غير عادل لدولة تدَّعي الديمقراطية وتبشِّر بها، بل هي الدكتاتورية بعينها أو الاستعمار البغيض من جديد أنْ تتخطى دولةٌ حدودها الإقليمية المعتَرَف بها دولياً، عبر البحار والمحيطات، وتدَّعي أنَّ أمنها القومي يُجيز لها التصرف في مصير دول ذات سيادة، وتبدأ في نشر وفرض طريقتها في العيش، وتسمِّي ذلك بالديمقراطية والتبشير بما تدَّعي أنه حقوق الإنسان، ذلك الإنسان الذي فلسفته السفه والانحلال الخلقي، والكفر بما بيَّنه الخالق للبشرية وجاءت به الرسالات عبر العصور، وإلباس الباطل لباس الحق.
تلك -في حقيقتها- ليست الديمقراطية التي تعني حُكْم الشعب لنفسه بناءً على معلومات صادقة تحقِّق المصلحة والأمن والسلام لذلك الشعب، أو كما عرَّفها الرئيس الأمريكي الأسبق أبراهام لنكولن بأنها «حُكْم الشعب مِنْ قِبَل الشعب من أجل الشعب»، بل هي ديمقراطية زائفة تتحكم فيها مصالح الشركات وفئات الضغط والمصالح، المالكة للمال والمسيطِرة على وسائل الإعلام بما فيها الجديدة منها، وعلى رأس ذلك مجموعة من الشركات صانعة السلاح التي تتكسب من الحروب، والمنتمون لتلك الشركات، فمصلحتها تكمُن في إيقاد الحروب وجَنْي الأرباح منها، ويعيش العالم اليوم في فترة الضرب بالشرعية الدولية عرض الحائط، إنه عالَـمٌ فُقِدَ فيه العدل وإحقاق الحقوق، وأصبح الضعيف فريسة للقوي.
إنه لمن المحزن الظلم الذي لحقَ بعديد من شعوب العالم جراء تفرُّد أمريكا بالعالم كقطب أوحد، وتلك آثار هذا الظلم حول الكرة الأرضية واضحة، ويكفينا الاقتصار على ما عاناه ويعانيه الوطن العربي لنرى آثار ذلك الظلم والجور، وإنَّ ما نراه من التأييد الجائر لدولة الاحتلال «إسرائيل» بالمال والسلاح على حساب العرب عامة والشعب العربي الفلسطيني المظلوم خاصة، وتدمير العراق وسورية وليبيا والسودان، ليس ببعيد عن ذهن أي إنسان يحب الحق والعدل والإنصاف، فما بالُكَ بالعربي الذي يرى تلك الدول جزءاً من كيانه.
خصومة العالم هي مع أمريكا الرسمية وسياساتها غير العادلة حول العالم، وليست مع الشعب الأمريكي الطيب، الذي خبرناه وعرفناه بنزاهته وحبه للعدل، متى ما عرف الحقيقة اصطفَّ إلى جانب صاحب الحق، وليست حرب فيتنام وقيام الفئات الكثيرة من الشعب الأمريكي ضدها، إلا مثالاً عاصرْنا زمنه، ورأينا كيف أجبر الشعب الحكومة الأمريكية على الانسحاب المخزي من ذلك البلد، وكذلك الحال في أفغانستان، وهنا تكمُن المشكلة: عدم معرفة الحقائق من قِبَل السواد الأعظم من الشعب الأمريكي، وللتدليل على ذلك فيما يتعلق بالحرب الروسية - الأوكرانية، فقد أرسلتُ لصديق أمريكي مقطع فيديو يتحدث فيه بروفيسور أمريكي شارحاً أسباب تلك الحرب، فشكرني ذلك الصديق عليه وقال: «نحن هنا لا نسمع إلا أنَّ بوتين دكتاتور، عنده السلاح النووي وأنه يهدِّدنا به... إلخ». الشعب الأمريكي في حقيقة الأمر مِنْ أكثر الشعوب المضلَّلة، مِنْ قِبَل حكومته والصحافة والإعلام المسيطِر عليه، والإنسان هناك –في الغالب- يلهث لكي يسدَّ احتياجاته المعاشية الضرورية، ويأخذ ما تنقله صحافته المرئية والمسموعة على أنه الحقيقة، فليس لديه الوقت للبحث عن الحقيقة.
في ظلِّ هذه الإضاءة؛ هل مِنَ الأفضل للعالَـم أن يكون هناك قطب أوحد مسيطِر عليه أو أن يكون عالَـماً متعدد الأقطاب؟ هل من المعقول أن تبقى الهيمنة في يد قطب واحد فَقَدَ مصداقيته وعدالته، ولا تحكُمُه قيم إنسانية راقية من العدل والإنصاف والنزاهة، بل كل ما يحكُم سلوكه وتصرُّفه حول العالم هو المال وأنانية المال، وفَرْض الهيمنة على الشعوب الأخرى؟! وها هي الحرب الروسية - الأوكرانية كشفت زيف ادعاءاته بالديمقراطية وحقوق الإنسان التي يدَّعي التبشير بها، ألا يعني إمداد الأوكرانيين بمزيد من السلاح مزيداً من الضحايا بين الطرفين، مع العلم أن الأوكرانيين لن ينتصروا على الروس في تلك الحرب، ماذا يعني ذلك؟! ماذا تعني التضحية باقتصاد قارة أوروبا بكاملها بفرض المقاطعة على مصادر الطاقة الروسية؟ أنانيةُ «نحن أولاً وليذهب الآخرون إلى الجحيم» ماذا تعني بالنسبة للعالم وخاصةً حلفاء الشعب الأمريكي؟
الشعب الأمريكي يستحق من قيادته إعادة النظر في سياساتها خلال العقود الماضية، يستحق من قيادته أن تُعيد لذلك البلد العظيم مكانته، يستحق قيادة ذات مبادئ وقيم فاضلة، ترى العالم من منظار أكثر واقعية وأكثر إنسانية، ترى في التنوع الحضاري جمال الإنسانية وتنوُّعها، تحس بآلام الجوع والمرض عند الشعوب الأخرى، وتساعد في تقليل معاناتها، تحترم سيادات الدول وتبتعد عن خلق المشاكل لها، ترى في إنجازات الشعوب الأخرى الاقتصادية والعلمية والصناعية إيجابيات حسنة لتطوير حياة إخوانها البشر، وتنظر إليها على أنها إنجازات بشرية تُشجَّع، وليست سلبيات تنافُسية تحاربها وتضع العراقيل أمامها.
كما أن الشعب الأمريكي يستحق أيضاً أن يجني ثمار جهوده الكبيرة التي حققها للبشر عبر الزمن، فقد بنى وأسهم إسهامات فذة في إطالة وتحسين حياة الإنسان على كوكب الأرض، ويستحق أن يشارك إخوانه في البشرية ثمار عمله واجتهاده في عمارة هذا الكون. أمريكا تحتاج إعادة النظر في جميع سياساتها السابقة التي لم يجنِ منها المواطن الأمريكي إلا الخسائر، ويمكن أن يُرى ذلك في ميزان المدفوعات الأمريكي الحالي.
ولتكن البداية إعمال الحكمة ومراجعة الأخطاء السابقة في محاولة قيادة العالم، فليس بالقوة والفرض يمكن قيادة العالم، ولا بالادعاء أن مصلحة أمريكا أولاً وفوق مصالح الآخرين، بل هي في المشارَكة في الرأي، والتعاون، وحب الخير للآخر.
إن مفتاح إطفاء نار الحرب الروسية - الأوكرانية في يد الولايات المتحدة الأمريكية، فهي ستكون المستفيد الأول من إطفاء تلك الحرب، لكي تستعيد بعضاً من موثوقيتها وممَّا فقدته من مكانتها حول العالم بانشغالها باصطناع الحروب وتأجيجها، وذلك سوف يُسهِم في إنقاذ حلفائها الأوروبيين من ورطة اقتصادية أوقعتهم فيها بإدخالهم في فرض العقوبات على روسيا (وهذه كانت خطوة مدمِّرة لاقتصاداتهم)، وعلى مستوى العالم سوف يكون في ذلك بداية لاستعادة الثقة بأمريكا، ولتبدأ بوقف إمداد الأسلحة منها ومن دول الناتو لكييف، وحثها على التفاوض مع الروس، وتأسيس علاقات أفضل بين الطرفين، واتخاذ أمريكا خطوة كهذه سوف يكون له آثار إيجابية أبرزُها التقليل من احتمال نشوب حرب عالمية ثالثة (التي إنْ حصلت -لا قدَّر الله- فلن يكون فيها كاسب)، وتبريد الأجواء، والتقليل من مخاطر سقوط الأسواق العالمية التي يقدِّر الاقتصاديون أنها وشيكة، وإيقاف موجة التضخم التي تهدِّد العالم أجمع.
إنها الفرصة السانحة للقيادة الأمريكية لاستعادة الثقة بها في قيادة العالم، فهي بلد له وزنه الكبير في معايير القوى العالمية، وله إسهامات كبيرة مشهود لها في تطوير حياة الإنسان. لتخرُجْ قيادة أمريكا من كونها تنتهج سياسة استعراض العضلات وفَرْض قيادتها على العالم، إلى كونها قيادة أكثر إنسانية تؤمن بالمشارَكة والتعاون بين شعوب العالم وتسعى لخير الإنسانية قاطبة؛ لتقود العالم في طريق الأمن والسلام والخير للجميع، لا في طريق الحروب والدمار، فمنطق القوة الذي اتبعتْهُ في الماضي ولا تزال، لم يؤدِّ إلا إلى مزيد من الدمار والمعاناة لشعوب الأرض، وقد أثبَتَ فشله الذريع.
إن من الحكمة الإفادة من الدروس السابقة، فقيادة العالم لن تتحقق لدولة من خلال العنف والفرض، بل بالحكمة والاتزان والعدل، والاعتراف بحقوق الآخرين في الأمن والسلام والتطور، وبحقوقهم في الحفاظ على حضارتهم واستقلالية قراراتهم، وإدراك أننا جميعاً نعيش في عالم صغير لا يحتمل مزيداً من الدمار، وأنَّ الطريق لقيادة العالم لا يكون إلا بالرضا والاعتراف بحقوق الآخر، والتعاون معه دون إكراه.