اللواء الركن م. د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
قطعاً، يدرك الجميع أن العلاقات الدولية، أمرٌ جد مختلف عن العلاقات الإنسانية، وإن كان الإنسان نفسه هو الذي يحدد طبيعة العلاقات الدولية؛ التي يمكن إيجازها في أبسط تعريف: لا صداقة في السياسة، حسب تعريف الثعلب كيسنجر، بل مصالح مشتركة، غير أن هذا لا يمنع ارتكاز تلك العلاقات أحياناً على مصالح أحادية، بخلاف العلاقات الإنسانية التي يمكن لطرف ما أن يقدم روحه فداءً لطرف آخر دون مقابل.
فتحريض الغرب بقيادة أمريكا لأوكرانيا للدخول في حرب عبثية ضد روسيا، هو مصلحة أحادية لأمريكا وحلفائها الغربيين، بهدف الحد من قدرات روسيا التي تسعى حثيثاً لإنهاء سيطرة القطب الواحد على العالم؛ فيما أصيبت أوكرانيا بدمار هائل، أدى لشلل تام تقريباً في كل أوجه الحياة، هذا بالطبع غير الخسائر البشرية التي لا يمكن تعويضها أبداً. ويمكننا أن نفهم تحرش أمريكا اليوم أيضاً بالصين وبالهند لاحقاً في السياق نفسه. وليس وقوف أمريكا إلى جانب وجهة نظر بعض البريطانيين في الخروج من الاتحاد الأوروبي ببعيدة عن الأذهان.
وعلى كل حال، أدرك جيداً إنه ربَّما يقول قائل إن في الأمر نظرة تشاؤمية أكثر من اللازم، غير أن هذا هو الواقع الذي أراه حسب قراءتي للمشهد السياسي العالمي الذي أثخنه التعقيد، فأصبح في تقديري مكشوفاً، لم يعد في حاجة لذكاء زائد.
أما لماذا هذا الاهتمام المحلي والإقليمي والعالمي بالعلاقات السعودية - الأمريكية؟ فلأن الجميع، وقبلهم أمريكا نفسها، يدركون أن السعودية دولة وازنة في المنطقة، بل هي الدولة صاحبة الحظ الأوفر والثقل الأكثر في حفظ التوازن السياسي والاستقرار الأمني والاقتصادي في المنطقة، وبالتالي في العالم أجمع على حد سواء؛ لأنها تتمتع بمميزات لا تتوافر لغيرها من رصيفاتها في دول المنطقة، بما فيها إيران، مصر والكيان الصهيوني أوجزها في التالي:
1 - تمثل السعودية إحدى أكبر الدول في العالم التي تنتج النفط وأهمها على الإطلاق مع أمريكا وروسيا. فضمان أمريكا السعودية إلى جانبها، يُمَكِّنها من السيطرة على أسواق الطاقة في العالم، وفي الوقت نفسه يتيح لها توافر هذا المورد المهم، فهي أكبر دولة مستهلكة للنفط في العالم (تسعة عشر مليون برميل يومياً). كما يُمَكِّنها أيضاً من الحد من قدرات روسيا في هذا المجال؛ لكن بالمقابل، نجد أن خسارة أمريكا للسعودية، تضعف موقفها، فيما تقوي موقف روسيا.
2 - السعودية من أكبر الدول في المنطقة التي تهتم بتسليح قواتها العسكرية وتدريبها وتأهيلها، وبالتالي فهي من أكثر الدول شراءً للأسلحة بمختلف أنواعها، وبالطبع يمثل هذا سوقاً جيداً لأمريكا التي تُعَدُّ رائدة العالم في صناعة الأسلحة؛ وإن بدأت السعودية اليوم تصنع بعض احتياجاتها من السلاح تنفيذاً لبرامج خطتها الطموحة الذكية (2030) على أمل تطوير صناعاتها العسكرية مستقبلاً.
3 - السعودية رائدة العالمين العربي والإسلامي، وتتمتع بمكانة كبيرة لديهما، ويمكنها استغلال هذا النفوذ لتهديد مصالح أمريكا هنالك إن هي أرادت، إلى غير ذلك من أدوات السلطة الناعمة.
4 - تتمتع السعودية بموقع إستراتيجي حيوي مهم، يمثل شرياناً حيوياً في الأعمال اللوجستية عبر آسيا، أوروبا وإفريقيا.
5 - تفاهم السعودية مع كثير من دول العالم المؤثرة المهمة بعد أمريكا، من روسيا، إلى الصين فالهند فكندا وألمانيا، وغيرها من دول الغرب، يزعج أمريكا كثيراً ويقض مضجعها، ولهذا يدفعها طوعاً أو كرهاً للاحتفاظ بعلاقات متميزة مع الرياض.
6 - وقبل هذا كله وذاك، في السعودية نظام حكم مستقر، راسخ الجذور منذ ثلاثة قرون، يمتاز بسياسة خارجية ثابتة محددة المعالم، أهم بنودها: عدم التدخل في شؤون الغير، وبالمقابل عدم السماح لأولئك الغير بالتدخل في شؤونها الداخلية أو حتى الخارجية على حد سواء. كما أن قادتها معروفون باحترام العهود والمواثيق، فلا يكذبون، ولا يخونون ولا يغدرون، حتى إن اضطرهم الأمر لخسارة هنا أو هنالك. ولهذا يمكن الاعتماد عليهم، وأخذ آرائهم وقراراتهم على محمل الجد. يضاف إلى هذا كله، تلك اللحمة الوطنية الفريدة الاستثنائية التي تربط الشعب بقادته بعرىً وثقى لا انفصام لها أبداً، فالجميع قادة وشعباً هم أسرة واحدة، يتقاسمون الحلو والمر بالقدر نفسه.
أقول: لهذه الأسباب مجتمعة وغيرها كثير مما لا يسع المجال للحديث عنه، تحرص أمريكا على الاحتفاظ بعلاقات جيدة، بل استثنائية متميزة مع السعودية. لكن مع إدراك أمريكا لأهمية السعودية وقدرتها الفائقة على التأثير في سياسة العالم واقتصاده وأمنه واستقراره، وبالمقابل مع إدراك الأخيرة لأهمية الأولى، لا أتوقع أن تستجيب أمريكا لكل ما تطلبه السعودية أو تطمح إليه في علاقاتها معها. وفي الوقت نفسه، لا أتوقع أيضاً أن تستجيب السعودية لكل ما تطلبه أمريكا أو تنتظره منها دونما مقابل.
فكثيراً ما تجنى المرشحون للرئاسة الأمريكية على السعودية، وتحدثوا عنها بما ليس فيها، بل كانوا هم أنفسهم أكثر الناس قناعة أن السعودية بعيدة كل البعد عمَّا يرمونها به من اتهامات ملفقة، وما يصفونها به من أوصاف لا تليق بها، ليس لها أدنى وجود على أرض الواقع؛ غير أنهم مرغمون لإرضاء الغوغاء من الشارع الأمريكي للتصويت لصالحهم، والأمثلة على هذا لا تُعَدُّ ولا تحصى، آخرها ما مارسه بايدن هذا نفسه أثناء حملته الانتخابية، فيما جاء اليوم ليؤكد على أهمية العلاقة الإستراتيجية بين البلدين؟!
والدليل: بمجرد أن تُعَلن نتائج الانتخابات ويُسَمَّى الرئيس، تكون السعودية هي أول وجهة له في جدول زياراته الخارجية، مثلما فعل الرئيس السابق ترامب. وجرى العرف على أن الوجه الأولى في الزيارة الخارجية للرئيس الأمريكي المنتخب، تؤكد مكانة تلك الوجه وأهميتها للمصالح الأمريكية.
وبالمقابل، كثيراً ما اتجهت السعودية شرقاً بسبب تعنت أمريكا ومراوغتها وحرصها على ضياع الفرص أمام السعودية؛ حتى إذا مضت السعودية في طريقها واتخذت قرارها، جاءت أمريكا تلهث خلفها لكي لا تفقدها.
أما عمَّا يُقَال من أهمية السعودية وقدرتها في الوقوف في وجه إيران، فهذا قطعاً صحيح لأسباب عديدة، أهمها حق السعودية في الدفاع عن أمنها القومي، ثم التزامها العقدي والأخلاقي تجاه العرب والمسلمين؛ وليس دفاعاً عن المصالح الأمريكية، وإن سعت السعودية لتوظيف علاقتها بأمريكا في تحقيق هدفها هذا، فهذا مفهوم بالضرورة في العلاقات الدولية.. في حين أن ما يُقَال عن حرص أمريكا على محاصرة إيران، والحد من قدراتها النووية، وتحجيم نواياها العدوانية للسيطرة على دول المنطقة، ومبدأ كارتر (1980) الذي ينص على ضرورة التزام أمريكا بمنع أي قوة معادية للسيطرة على منطقة الخليج، فيذكرني بتلك المقولة الشهيرة للإمام علي بن أبي طالب: حقٌ يُراد به باطلٌ. فبينما تتظاهر أمريكا بتحجيم إيران والحد من قدراتها وتصر على معاقبتها وتهددها باستخدام القوة إن لزم الأمر في الصباح، تتواطأ معها في المساء لتجعل منها بعبعاً تستنزف به دول الخليج؛ وإلا فإن كانت أمريكا حقاً جادة فيما تقول وصادقة في موقفها، لاتخذت خطوات واضحة حاسمة، لاسيَّما هي الدولة الأقوى في العالم، دون أن تخشى أي تهديد لمصالحها في المنطقة. فقد سبق أن منعت أمريكا الاتحاد السوفيتي من دعم العرب في حرب الأيام الستة لتمكين الكيان الصهيوني، وعملت فيما بعد ليل نهار بكل قدراتها لتفكيك الاتحاد السوفيتي؛ ولم يهدأ لها بال حتى حققت هدفها. واختطفت الرئيس نورويقا، رئيس بنما من غرفة نومه؛ وقصفت طائراتها ليبيا في عهد ريغان، كما قصفت السودان في عهد كلينتون، وفعلت الشيء نفسه في أفغانستان والعراق في عهد بوش الأب والابن، دون أن يرجف لها جفن أو يحاكمها أحد.
فلم يكن ليحول أمامها اليوم أي مانع من تدمير المفاعلات النووية الإيرانية، واختطاف رئيس إيران وحتى مرشدها الأعلى واقتيادهم إلى الوجه التي تريد.. لكنها على كل حال، السياسة والعلاقات الدولية التي ترتكز على تحقيق المصالح التي هي أشبه ما تكون بشعرة معاوية، مع الفارق طبعاً.
وخلاصة القول: لست متشائماً، أبداً.. وليس التشاؤم من طبعي؛ غير أنني أنظر للأمر بعين الواقع حسب رؤيتي المتواضعة، فأمريكا لن توقع للسعودية على شيك على بياض، وكذلك لن تفعل السعودية لأمريكا أو غيرها مهما كانت الوعود والأحلام. وتبقى المصلحة سيد الموقف، فهي دائماً التي تحدد طبيعة علاقات هذه الدولة بتلك والعكس.
ويبقى الشيء الأكيد، الذي أكد عليه طيف واسع من الأكاديميين الأمريكيين والسياسيين من الحزبين الجمهوري والديمقراطي: العلاقة بين الشريكين، السعودية وأمريكا، علاقة نِدِيَّة إستراتيجية، ضرورية، لازمة للطرفين بالقدر نفسه؛ بحيث لا يمكن لأحدهما الاستغناء عن الآخر. لكن تبقى دوماً تلك المنطقة الرمادية التي تضطر أحد الطرفين للجنوح هنا أو هناك وإن كان إلى حين؛ خاصة أن أمريكا عودتنا على أن ما تقوله في الضوء، غير ما تفعله في الغرف المظلمة؛ وإن كنت على قناعة تامة أنها لا بد لها أن تفكر ألف مرة عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع السعودية في أي شأن ما، بخلاف دولة الرسالة التي تلتزم بما تقوله دوماً.