د. محمد بن يحيى الفال
الحلفاء يختلفون في أطروحاتهم للقضايا والمعضلات التي قد تواجههم بين الفينة والأخرى ولكن المحك في نهاية المطاف هو قدرتهم للتواصل بينهم لتجاوز هذه الاختلافات مهما كانت عصية وذلك انطلاقا من معرفتهم بأهمية وحيوية العلاقة التي تربط بينهم والتي تصب في نهاية المطاف في المصالح المشتركة المتعلقة ليس فقط ببعضهم البعض، بل كذلك فإن لها أهمية قصوى فيما يخص الأمن والسلم الدوليين. جاءت قمة جدة في السادس عشر من شهر يوليو المنصرم لتجسد متانة وحيوية العلاقات الثنائية التي تربط بين البلدين الصديقين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية.
جاء بيان جدة الذي أعقب المحادثات المكثفة بين الصديقين ليضع حداً ونهاية لكافة ما كان يتداول في وسائل الإعلام العالمية عن خلافات عميقة وجذرية بين الحليفين قد تؤثر في صلب ومستقبل العلاقات التاريخية التي تربطهما وهو الأمر الذي يلاحظ بأن بيان جدة وضع نهاية لكل هذه التكهنات بتأكيده في ديباجة البيان وفي سطوره الأولي على التأكيد على الشراكة التاريخية التي تربط البلدين الصديقين الممتدة لثمانية عقود والمرتكزة على اللقاء التاريخي الذي أسس لها زعيما البلدين الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود رحمه الله ورئيس الولايات المتحدة الأمريكية الثاني والثلاثين فرانكلين ديلانو روزفلت. ولعل الملاحظة المهمة أيضا ولها ما تعنيه في طياتها لكل الأطراف في المنطقة وكذلك العالم هو تأكيد البلدين بأن بيان جدة الذي صدر بعد استعراض شامل للشراكة التي تربط بين البلدين يهدف لتعزيز مصالحهما المشتركة لشرق أوسط يسوده الاستقرار والازدهار والأمن والسلام.
بيان جدة جاء شاملاً متكاملاً ونموذجياً في الكيفية التي يجب أن تكون عليها العلاقات الثنائية بين الدول فيما يحقق ليس فقط مصالحهما الثنائية بل العمل على استقرار السلام الدولي، فالبيان لم يترك موضوعاً ذا أهمية إلا وتطرق له وعليه فهو يعد وثيقة تاريخية في مقدرة الدبلوماسية على تجاوز الخلافات من أجل تعاون مثمر بناء وهو كذلك يعد بوصلة تنطلق بها العلاقات الإستراتيجية التي تربط المملكة وأمريكا نحو أفق أرحب لا يختلف فيه أحد بأن ما حققته من إنجازات يعد بالفعل نموذجا يحتذي به في الكيفية التي يجب أن تكون عليها العلاقة بين الحلفاء.
شمولية بيان جدة ليست إلا إشارة واضحة الوضوح لا لبس فيها بأن البلدين الصديقين يثمنان ويقدران أهمية علاقتهما لبلديهما وشعبيهما وللعالم أجمع فعليه لم يتركا أي من القضايا المهمة إلا وتطرق لها في بيان جدة وأكدا إيمانهما المطلق بحل الأزمات بالطرق الدبلوماسية السلمية ومساعدة الدول التي تحتاج لدعم اقتصادي لمواجهة التحديات بما ذلك خطر الإرهاب.
بيان جدة يمكن تقسيم اهتماماته وما تطرق له لمحورين أساسيين، أحداهما يتعلق بالشأن الداخلي والآخر بالتطورات الدولية على كافة الأصعدة.
في الشأن الداخلي نرى من خلاله ترحيب الجانب الأمريكي برؤية المملكة 2030 وبما تمثله من تحول محوري في بنية وهيكلة اقتصاد المملكة وبما تقدمه الرؤية من خطط ومبادرات لتمكين المرأة السعودية ومشاركاتها بشكل فاعل في مسيرة نهضة بلادها. مؤشر في غاية الأهمية جاء في بيان جدة وهو موافقة الجانب الأمريكي من الانسحاب هي والأطراف الأخرى من القوات المتعددة الجنسيات المرابطة في جزيرة تيران مما يعني عودتها بشكل فعلي لسيادة المملكة العربية السعودية وتطوير بنيتها الاقتصادية والسياحية هي وجزيرة صنافير وعودتهما لسيادة الوطن بعد عدة عقود في إنجاز تاريخي تحق الإشادة به وتثمينه بكل المعايير. الطاقة وما تمثله من أهمية للاقتصاد العالمي توافق البلدين على التشاور المنتظم حولها والتركيز على تحويلها لنظيفة ومن الملاحظ هنا بأنه وما أن تم الإعلان عن زيارة فخامة الرئيس الأمريكي بايدن للمملكة حتى بدأت أسواق البترول العالمية في تنفس الصعداء بعودة الثقة لسوق الطاقة العالمية وهو ما نتج عنه وعلى أرض الواقع انخفاض سعر جالون البترول وفي تغريدة للرئيس الأمريكي بثها مؤخرا بأن سعر الجالون أضحي بأقل من أربعة دولارات وذلك في الكثير من الولايات الأمريكية مثل كارولينا الجنوبية، تكساس، جورجيا مسيسيبي، ألاباما وتنيسي. كذلك وفي خطوة مهمة أكد الجانب الأمريكي دعمه لمبادرتي سمو ولي العهد السعودية الخضراء والشرق الأوسط الأخضر وهما مبادرتان في غاية الأهمية تأكدت أهميتهما لمناخ العالم برؤية سمو ولي العهد الواضحة والاستباقية وعالمنا يشهد احتباسا حراريا غير مسبوق في فصل الصيف الجاري. التعاون المشترك الوثيق لأمن البلدين أكد عليه بيان جدة من خلال توقيع عدد من مذكرات التفاهم بخصوصه مع تعزيز تعاونهما في تطوير تقنية الجيل الخامس والسادس لشبكات الاتصالات وكذلك تعاونهما في استكشاف الفضاء واستخداماته السلمية.
المحور الخارجي لبيان جدة تطرق لعدد من القضايا جاء في مقدمتها مباركة الجانب الأمريكي الهدنة الحالية في اليمن وبأهمية العودة لطاولة المفاوضات من قبل الحوثيين برعاية الأمم المتحدة وتحت المرجعيات الثلاث، المبادرة الخليجية وآلياتها التنفيذية، قرارات الحوار الوطني اليمني والقرار الأممي رقم 2216 الصادر في 14أبريل 2015.
فلسطينياً، أكد البيان بأن حل الدولتين هو الخيار الأمثل لحل الصراع في الشرق الأوسط وتشجيع المبادرات الساعية لذلك ومنها القرارات الدولية ذات العلاقة ومبادرة السلام العربية التي أقرتها قمة بيروت العربية 2002. الدول العربية التي تواجه أزمات أكد بيان جدة على ضرورة الحفاظ على وحدتها الترابية وسيادتها ومواجهة تحديات المجموعات المتطرفة والإرهابية التي ابتلي بعضها بها وكذلك مساعدتها اقتصاديا لمواجهة أزماتها وجاء ذكر هذه الدول في البيان حسب هذا الترتيب: العراق، سوريا، لبنان، السودان وليبيا.
الوضع في أفغانستان وما يمثله أمنها واستقرارها للعالم أكد عليه البيان بضرورة دعهما لمواجهة الجماعات الإرهابية المتطرفة ولا شك هنا بأن علاقة المملكة بأفغانستان ومعرفتها بها وتقدير شعبها للمملكة هي أساسيات سوف تصب في مساعدة العالم لمساعدة أفغانستان للنهوض من كبوتها لتعود دولة مستقرة بعد عقود من الصرعات وتدخلات الجماعات الإرهابية المتطرفة. ملاحظة ذات دلالة جاءت في بيان جدة وهي أن إيران جاء ذكرها في سطر واحد فقط منددا بتدخلاتها في شؤون الدول ودعهما للإرهاب وبرنامجها النووي ولعل مغزى ذلك يعود لإعطائها فرصة للعودة عن تصرفاتها التي أضرت بها وبشعبها بادئ القول وبدول المنطقة خصوصاً بأن محادثات ملفها النووي مع الغرب في فصولها الأخيرة وكذلك ما صدر عنها مؤخراً بأن محادثاتها مع المملكة تشهد انفراجات قد تسهم في عودة سريعة للعلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
ثمن البيان دور المملكة القيادي في تأمين إمدادات الطاقة للعالم وأهمية الحفاظ على حرية الممرات البحرية الدولية في باب المندب ومضيق هرمز وثمن الجانب الأمريكي بتولي المملكة قيادة قوة المهام المشتركة 150 لتعزيز أمن الملاحة الدولية في بحر عمان وشمال بحر العرب. في ترحيب كبير وإشادة ثمن الجانب الأمريكي بالسماح لكافة الطائرات المدنية بعبور أجواء المملكة وذلك بموجب اتفاقية شيكاغو لعام 1944 وعلى أن يكون المعيار هو التزام الناقلات الجوية العابرة لأجواء المملكة بشروط الهيئة العامة للطيران المدني والمطبقة على كافة الناقلات الجوية. ثمن الجانب الأمريكي في بيان جدة التعاون المشترك بين البلدين في الجهود الرامية لمكافحة الإرهاب وتمويله من خلال مقره بالمملكة. في ملاحظة هي الأخرى لها دلالاتها بعودة الترابط والألفة بين الأشقاء في المملكة وقطر هو تأكيد المملكة في بيان جدة على أهمية كأس العالم لمنطقة الشرق الأوسط والتي تستضيفها الشقيقة قطر هذا العام مثمناً الدعم الأمريكي للمملكة لاستضافة معرض أكسبو2030.
في خطوة لها دلالاتها كذلك وحتى لا يبقي بيان جدة بدون ما يؤكد جديته وأهميته فقد تزامن البيان بتوقيع البلدين على 18 اتفاقية شملت أهم مرتكزات رؤية المملكة 2030 وشملت مذكرات للتعاون البلدين الصديقين في مجالات الطاقة، الاستثمار، الاتصالات، الفضاء والصحة. أحد أهم مذكرات التعاون هذه هو المذكرة الموقعة بين كل من وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات مع شركة آي.بي.إم «IBM» لتدريب وتأهيل مائة ألف شاب وفتاة في مجال تقنية الرقميات على مدى فترة خمس سنوات وهو الأمر الذي يؤمل منه بأن ينقل المملكة إلى مصاف الدول المتقدمة في البرمجة الرقمية ولتكون الرائدة في المنطقة في هذا المجال.
كما بدأ بيان جدة في ديباجته الأولية متفائلاً مؤكداً على ثوابت العلاقة الإستراتيجية بين الحلفين الصديقين فقد جاءت ديباجة خاتمته هي الأخرى قوية مبشرة بالقيام بكل جهد لدعم هذه العلاقات لما فيه خير البلدين والشعبين الصديقين وجاءت الديباجة على النحو التالي «يشكل بيان جدة أساس العمل للمضي قدما لتوطيد الشراكة الإستراتيجية بين البلدين وتعزيزها».