صلاح عبدالستار محمد الشهاوي
منذ أن وجد الإنسان على هذه الأرض وهو يحاول تحسين وسائل عيشه وتطويرها، سواء كانت مواد غذائية أو مرافق سكن أو وسائل نقل أو غير ذلك مما له صلة بحياته وبقائه على هذه الأرض. فابتكر العديد من هذه الوسائل وطورها لتتناسب مع أهدافه وأغراضه، ولتفي باحتياجاته، ما قلَّ منها وما كثر.
ولعل العَجَل كان رفيق الإنسان منذ بدايات تطور حياته قبل ألوف السنين، وهو ما زال يرافقه حتى اليوم. ولنقل إن هذا الاختراع كان على ما فيه من بساطة أساس اختراعات ميكانيكية كثيرة أخرى، كالبكرة والتوربين والمحمل الاسيطيني. وإذا كان الإنسان قد أدخل عليه تحسينات مختلفة عبر العصور، فإنه بقي واحداً من حيث الأساس والفكرة. وهو أحد الآلات أو الأدوات الخمس التي عرفها الإنسان القديم إلى جانب المخل (العتلة) والإسفين والبكرة والقلاووظ، المعروفة كلها بأهميتها البالغة في حياتنا.
والمفاجأة، هي جزم العلماء والمؤرخين أن عجلة الخزاف - التي تستخدم في صناعة حافات القدور والأواني الخزفية المستديرة - عرفت حوالي منتصف الألف الرابع قبل الميلاد، بذلك يكون إنتاج العجل للنقل جاء في أعقاب إنتاج عجلة الخزاف أي: أن استعمال العجل لصنع الخزف نفسها كفيلة بالإيحاء لصنع العجل، لاسيما وأن الصلصال المتوافر بكثرة في أحواض الأنهار وفي السهول وهو شديد المرونة، كان يمكِّن الصانع من أن يغير شكله كما يشاء قبل أن يشويه أو أن يعرضه للشمس ليقسو ويصلب.
بعد ذلك عرفت الدائرة، فقد لاحظ المزارع القديم استدارة جذع الشجرة، ولكن معرفة صنع الدائرة تحققت بعد ذلك بزمن طويل. ولعل دحرجة قطعة من جذع شجرة، في أرض منحدرة أو رؤية جذع يندفع على صفحة المياه الجارية، هما اللتان أوحتا إلى ذلك المزارع الأول في أن يصنع العجل. وهناك رأي يقول إن البكرات كانت توضع في الطرف الخلفي للوح الناقل للحمولة، ثم نقلت إلى طرفه الأمامي، ويثبت في ثلمة فيه بحيث تحول اللوح إلى عجل ذي محور. غير أن هناك من يقول إن البكرات كانت توضع تحت اللوح لخفض الاحتكاك وتسهيل الجر، مما أدى بالتالي إلى صنع العجل ذي المحور. وإذا صح هذا التقدير، والغالب أنه صحيح، فإن الشعوب الزراعية هي التي سبقت غيرها إلى صنع العَجَلَ.
والتاريخ يذكر أن العجلة اخترعت منذ آلاف السنين في أسيا، فأدت إلى ثورة في وسائل الموصلات، حيث خولت الزحافة من مركبة يلزم سحبها على الأرض بقوة إلى وسيلة تجري نسبياً برفق وسهولة. والعجلة تطورت أصلاً عن استعمال جذع الشجرة كدرافيل لنقل الأحمال الثقيلة، فإذا كان الجزء الأوسط من الجذع يجذ ليترك محوراً (دنجل) ينتهي بعجلة صلدة عن كل من طرفيه، ويمكن تثبيته تحت زحافة تصبح مركبة بعجل.
ولا يعرف متى حدث هذا لأول مرة، وإذا كان هذا هو ما حدث فعلاً، فالعربات الأولى نظراً لكونها من الخشب القابل للفناء، قد تلاشت ولم يمكن التأكد من وجود مركبات بعجل إلا بعد ظهور النماذج والرسومات ومن المؤكد أنها كانت معروفة عند السومريين في عصر مبكر حوالي 3500 قبل الميلاد، ثم شاع استعمالها حوالي 3000 قبل الميلاد في جميع أنحاء النصف الشرقي من الهلال الخصيب، والحقيقة التاريخية تؤكد أن للتطور الزراعي وللانتقال إلى حياة المدن في بلاد ما بين النهرين في تلك الفترة دورهما في صنع العجل.
لقد باتت السرعة في نقل السلع المنتجة والحاجة الملحة إلى الري الزراعي ضرورتين للمزارع، خاصة بعدما ملّ الإنسان رفع الماء بالشادوف، فكان لا بد من صنع أداة تؤمن له رفع المياه إلى الأرض المزروعة، كما كان لا بد له من وسيلة لنقل الإنتاج الوفير. وفى هذه الحالة كانت الساقية «الناعورة» أو العلب المائية التي تدور على دولاب كبير يتحرك في حركة دائرية في بئر الماء، لتمتلئ بالماء حين تكون في الأسفل، وترتفع مع الدولاب الدائر إلى أعلى لتصبها في مجرى خاص لري المزروعات.
صنع العجل أولاً من ثلاث قطع مشطوبة الأحرف، إحداها في الوسط مثقوبة لإدخال المحور، وتشكل عند جمعها معاً وتثبيتها بمسامير أو خوابير، دائرة واحدة. لم يكن العجل الأول ببرامق، كان لابد من مرور بضعة قرون قبل أن يصنع المنتج عجلاً ببرامق، حيث كانت العجلات تصنع من قطع عدة صلبة، وليس من ثلاث فقط تجمع الواحدة منها إلى الثانية لتشكل كلها دائرة واحدة، ثم يحمي المعدن وهو الحديد في هذه الحالة ليلوى ويلف على الدائرة، ثم يبرد فينكمش وتثبت القطع المجموعة في دائرة متينة. تلا ذلك صنع محور معدني يدور عليه العجل.
ولئن كان التطور الزراعي والصناعي هو الذي أوجد الظروف الملائمة التي أوحت بصنع العجل. فإن اتساع الأعمال العسكرية كان الدافع الذي أدى إلى تحقيق الخطوات التالية في تطويره. والملاحظ أن العجل ببرامق عرف في أواخر الألف الثالث قبل الميلاد، في شمالي سوريا، ثم مصر، في صناعة العربات العسكرية.
وفي أوائل الألف الثاني قبل الميلاد، أو قبيل ذلك بقليل، عرف الإنسان الجواد ودجَّنه. بعد ذلك كانت العربات التي تجرها الجياد، وقد انحصر استعمالها بالملوك والقادة، سواء في نزهاتهم أو في حملاتهم العسكرية.
والأمر الشائع أن المصريين لم يعرفوا العجلة حتى أدخلها الهكسوس، والواقع أن العجلة كانت معروفة في مصر قبل عصر الهكسوس وربما كان استعمالها على نطاق ضيق لأن المصريّ كان يعتمد على النيل في تنقلاته وخاصة أن هذه العربات لا تصلح لنقل الأحجام الضخمة أو الثقيلة، إنما ينسب إلى الهكسوس إدخال العجلة الحربية السريعة.
وفي عهد الدولة الحديثة في مصر (1580- 1100 قبل الميلاد) كانت هناك العجلة وتجرها الثيران وكانت تستخدم غالباً لنقل الزاد إلى عمال المناجم وعلى ذلك فقد كانت نوعاً من عربات النقل، أما المركبة فإننا نعرف عنها الكثير فكانت تستعمل للسفر والصيد في الصحراء وفي القتال وقد كانت عبارة عن عربة صغيرة خفيفة للغاية لا تسع أكثر من ثلاثة أشخاص واقفين وكانت المركبة دائماً ذات عجلتين فقط مثل الحنطور تصنعان بعناية من مختلف الأخشاب وكان لها أربعة أنصاف محاور ومنذ النصف الثاني من الأسرة الثانية عشرة صار لها ستة محاور وفي النادر ثمانية أما المركبة الآسيوية فكان لها أربعة، وكان قطبها (الدنجل) تحيط بها من الأمام ومن الجانبين جدران رفيعة من الجلد المشدود أو سياج (درابزين) خفيف من الخشب المقوس، أما العريش فكان مثبتاً من طرفه الخلفي في هذه القاعدة وكان يربط مع السياج بالسيور زيادة في الاحتياط وفي قمته خشبة متعارضة عقف طرفاها ليثبت فيهما جهاز فرس المركبة، وقد كان هذا الجهاز بسيطاً للغاية، فلم يكن المصري يعرف استخدام (العدة) الخاصة بالخيول في العربات، وإنما كان يحيط صدر كل من الفرسين بسير عريض بالخشبة المتعارضة للسلب، وبهذا فقط كان الفرسان يشدان العربة، ولكي لا يحتك هذا السير برقبة الفرس كانت توضع تحته من الخلف قطعة عريضة من الجلد (الكفل) يمر منها سير أقل عرضاً يتصل بالسلب من تحت البطن ليمنع السير العريض من أن ينتقل من مكانه ولقيادة الخيل كانت تستعمل الأعنّة وكانت تمضي فوق (عقافة) في الكفل إلى الشكيمة وكانت طريقة لجام هي نفس الطريقة الحالية الشائعة في كل مكان، ومنذ الأسرة التاسعة عشرة كانت تستعمل أيضاً الأغطية لعيون الخيل، على هذا النحو كانت تصنع سائر المركبات في هذا العصر. ولم يكن يختلف بعضها عن بعض إلا من حيث ازدياد أو قلة فخامة جهازها.
انتشار صناعة العجلات والعربات
من مصر وسوريا دخلت العجلات اليونان في الألف الأول قبل الميلاد، لأجل أن يصبح سباق العربات جزءاً من استعراضات الألعاب الأولمبية. وفي القرن الخامس قبل الميلاد نقل الأترسكيون هذه الصناعة إلى إيطاليا وسردينيا وغربي أوروبا.
أما في الأمريكتين فالملاحظ أن العجلات لم تعرف قبل وصول كولومبس 1492م (897هـ) أما في بداية القرن التاسع عشر فكانت عربة الحنطور إحدى أهم الوسائل الهامة للتنقل داخل المدن خاصة للطبقتين العليا والمتوسطة.
أما صناعة الحناطير بالشكل الحديث الذي نراه في هذا العصر فبدأت غالباً في أوائل القرن التاسع عشر في مصر منذ أيام محمد علي عندما كان يستورد تلك العربات من إيطاليا وفرنسا وإنجلترا حيث كانت تأتي في صناديق ويتم تركيبها في مصر على يد الصناع الإيطاليين الذين تعلم منهم المصريون هذه الحرفة وقد استطاعوا تقليدها بمهارة بل وقاموا بصناعة عربات الركوب وأضافوا إليها بعض التعديلات ومن أهمها ابتكار طراز خاص بمصر. يسمى (نصف دوران) تكون فيه الكنبة الخلفية مستديرة الجوانب وهذا الطراز أقوى احتمالاً من المستورد.
يذكر علي باشا مبارك في الخطط التوفيقية بأنه يوجد بمدينة القاهرة ألف وستمائة وخمس وسبعون عربة من العربات الكرلو (الكارو) والصندوق وأربعمائة وست وثمانون عربة من عربات الركوب المعدة للأجرة وعشر عربات بقاري، وكان عدد عربات الركوب الخاصة في الإسكندرية مائة وثماني وثلاثون مزدوجة، ست وثمانون مفردة وثلثمائة وستة وأربعون هنتور -حنطور-.
أهمية اختراع العجلات للبشرية
لا شك ثمة علاقة أكيدة بين صنع العجلات وشق الطرقات لسرعة التنقل والمبادلات التجارية، ففي العام 1645م تم صنع الدراجة الأولى في فونتنبلو بفرنسا كان يقودها رجلان من دون جياد. وكانت بأربع عجلات. ثم صنعت الدراجة ذات الثلاث عجلات في باريس 1779م. أما القطار البخاري فصنع على عجلات العام 1804م.
ثم جاء النصف الأول من القرن التاسع عشر فظهرت الدراجة ذات العجلتين وبفضل اختراع المحرك ظهرت الدراجة البخارية ثم ظهرت السيارة التي أصبحت أهم وسيلة نقل برية اخترعها الإنسان.
ويمكن أن نوجز تاريخ الدائرة أو العجلة في أن ألوفاً من السنين مرت قبل أن يعرف الإنسان العَجَل. كان لا يعرف وسيلة للتنقل غير السير على قدميه، وكان لا يعرف طريقة لنقل السلع غير حملها على كتفيه أو على ظهره. وإذا به يعرف العجل ويصنع العربة، ليجرها بنفسه، أو ليشدها إلى حيوان، لينتقل عليها بسرعة، أو لينقل البضائع بسرعة وبمقادير كبيرة. ومضت قرون عدة فقط قبل أن يستفيد من هذا الاختراع في المجالات التجارية والعسكرية والزراعية. ولم تمض غير فترة قصيرة، منذ أوائل القرن التاسع عشر، حتى استخدم الإنسان العجلات للساعات والقطارات والدراجات والسيارات والطائرات. وها هو اليوم يصنعها من المطاط الطبيعي أو من مواد تركيبية في عصر البترول والسيارة والطائرة والمركبة الفضائية. رحلة طويلة امتدت عبر مئات الأجيال لكنها كانت طريفة ومفيدة تنقل الإنسان عبر المسافات الشاسعة في الفضاء كما على الأرض.