عبدالرحمن الحبيب
إذا كانت القوة الناعمة للولايات المتحدة تستفيد من صورة المؤسسات التعليمية الأمريكية على أنها من النخبة ومن الدرجة الأولى عالميًّا؛ فإن الجامعات الصينية تستخدم رسومها الدراسية المنخفضة نسبيًّا وتوافر المنح الدراسية الممولة من الدولة كنقاط بيع لتطويع طلاب من بلدان الجنوب. كما تربط الصين برامجها التعليمية الدولية مباشرة بالفرص الاقتصادية التي تمولها الدولة بإمكانية العمل في الشركات الصينية للخريجين. هذا ما تقوله الدكتورة ماريا ريبنيكوفا أستاذة الاتصالات بجامعة ولاية جورجيا ومؤلفة كتاب القوة الصينية الناعمة، في عمل لها بمجلة فورين أفيرز الذي نستعرضه هنا.
صاغ العالم السياسي الأمريكي جوزيف ناي المصطلح في كتابه عام 1990 والذي عرّفه بأنه «دفع الآخرين إلى ما تريده».. موضحًا أن الولايات المتحدة تمتعت بميزة هائلة على أي منافس محتمل بفضل وفرة قوتها الناعمة، التي تعتمد على «الموارد غير الملموسة: الثقافة، والأيديولوجيا، والقدرة على استخدام المؤسسات الدولية..»
تذكر الكاتبة أن فكرة القوة الناعمة اكتسبت زخمًا في التسعينيات، ثم تعرضت للاختبار بعد الحرب الأمريكية الكارثية في العراق والارتفاع الحاد في المشاعر المعادية لأمريكا في الشرق الأوسط.. وأن للمفهوم الأمريكي للقوة الناعمة نزعة أيديولوجية مميزة، حيث تقدم أمريكا نفسها كأول مدافع عن النظام الديمقراطي الليبرالي، وتحظى بالتنوع الجنساني والعرقي والثقافي وتشيد بأمثلة على المرونة الفردية والإبداع وقصص نجاح المهاجرين.. كما تتشكل القوة الناعمة الأمريكية أيضًا من خلال الصادرات الثقافية للقطاع الخاص والجامعات، أفلام هوليوود وموسيقى الهيب هوب، وجوجل، والماركات المعروفة عالميًّا مثل كوكاكولا وماكدونالدز..
الصين دخلت حلبة السباق الناعم بدءًا من عام 2007 تقريبًا، تحت قيادة الرئيس هو جينتاو، وحث الحزب الشيوعي الصيني على «تحفيز الإبداع الثقافي للأمة بأسرها، وتعزيز الثقافة كجزء من القوة الناعمة لبلدنا» وتبنى الخبراء والمسؤولون الصينيون القوة الناعمة بإلحاح أكبر من نظرائهم الأمريكيين.. وقام الحزب باستثمارات ضخمة في الدبلوماسية العامة والتوسع العالمي لوسائل الإعلام والمراكز الثقافية واللغوية التي تم إنشاؤها في 162 دولة.
اشتدت المنافسة بين أمريكا والصين لجعل بلديهما ونماذجهما السياسية والاقتصادية أكثر جاذبية لبقية العالم، ويقلق كل طرف من نقاط ضعفه المحتملة. في أمريكا، قد يؤدي تآكل المعايير الديمقراطية إلى الإضرار بصورة البلاد، بينما في الصين قد يؤدي تباطؤ الاقتصاد والشعور بالعزلة الناجم عن نهج الدولة «صفر كورونا» إلى إضعاف سمعتها في الإدارة البراغماتية الموجهة نحو النتائج.
توضح الكاتبة أن البلدين يفسران القوة الناعمة بشكل مختلف تمامًا ويقومان بتطبيق المفهوم بطرق مختلفة، إذ تضع واشنطن القيم والمثل الديمقراطية في صميم ترويجها للقوة الناعمة، بينما تركز الصين على الأمور العملية بدمج جاذبيتها الثقافية والتجارية. هذا النهج الصيني حصد مكاسب محدودة في الغرب، لكنه لاقى صدى في «الجنوب العالمي». وفي كل الأحوال، غالبًا ما يرى الناس شكلي القوة الناعمة على أنهما مكملان أكثر من كونهما تنافسيين.. فما تراه واشنطن وبكين على أنه مكسب لأحد الطرفين، غالبًا ما يراه الكثير من العالم على أنه مكسب للطرفين.
في الصين، يركز فهم القوة الناعمة وممارستها على البراغماتية (النفعية) أكثر من التركيز على القيم، ففي مناقشة فكرة جوزيف ناي، انتقد بعض المحللين الصينيين الفصل بين القوة الصلبة (عسكرية، اقتصادية) والناعمة (اجتماعية، ثقافية، فنية...) لأنه مصطنع، مشيرين إلى أن الكثير من جاذبية الولايات المتحدة تعتمد على براعتها العسكرية وقوتها الاقتصادية، فمثلًا كوكا كولا ليست مجرد ظاهرة ثقافية اجتماعية بل قوة تجارية طاغية. لذا، تروج الصين لنموذجها في التنمية الاقتصادية، وكفاءتها الحاكمة، والتقدم التكنولوجي، وقدراتها العسكرية المتنامية، وقدرتها على تنفيذ التعبئة السياسية، كما رأينا في حملاتها ضد الفقر والفساد.
إذن، أي شيء قد يحسن صورتها يعتبره الصين عنصرًا من عناصر القوة الناعمة حتى القوة الصلبة؛ هذا النهج الأكثر براغماتية والأقل أيديولوجية تجاه القوة الناعمة يظهر في خطابات شي الدولية الرئيسية، حيث يميل إلى التقليل من أهمية الأيديولوجية لصالح التطلعات العملية؛ إذ أعلن في خطاب بالأمم المتحدة (سبتمبر 2021): «يجب علينا حماية وتحسين سبل عيش الناس وحماية وتعزيز حقوق الإنسان من خلال التنمية، والتأكد من أن التنمية هي للناس وبواسطة الناس، وأن ثمارها يتم تقاسمها بين الناس».. إن صياغة شي تقوض بمهارة العلاقة بين الحقوق والقيم الديمقراطية الليبرالية، وتعيد تعريف «حقوق الإنسان» على أنها الوصول إلى الفرص الاقتصادية حسب الكاتبة..
«لقد انتشلوا 700 مليون من الفقر!» صرخ مسؤول إثيوبي التقيت به في أديس أبابا عام 2019 وحضر عدة تدريبات صينية، كما تقول الكاتبة التي ذكرت أن الصين تحاول تعزيز قوتها الناعمة من خلال التعليم وتقدم برامج التدريب كمصدر إلهام للتنمية السريعة، موضحة أن المقابلات التي أجرتها مع الطلاب ومسؤولي الجامعات في إثيوبيا كشفت أن العديد من خريجي المعاهد ينتهي بهم الأمر إلى العمل كمترجمين في المؤسسات الصينية، حيث يتقاضون ضعف متوسط راتب الأستاذ الجامعي الإثيوبي.
بعد ذلك تتناول الكاتبة تقدير وتقييم هذ القوة الناعمة واستطلاعات الرأي العام لبعض دول العالم في الغرب وفي الجنوب العالمي خاصة إفريقيا وأمريكا اللاتينية، سيتم استعراضها في المقال القادم..