فهد عبدالله العجلان
المتأمل في التاريخ، يلحظ أن القادة والزعماء التاريخيين الاستراتيجيين منهم تحديداً، ينحون إلى اتجاه بناء مدن جديدة، تجسِّد أفكارهم ورؤاهم المستمدة من مبادئهم وقناعاتهم تجاه تحديات المستقبل، ليس استجابةً لمحيطهم الجغرافي فقط بل والعالمي، فمنهم من تكون القلاع المحصنة والأسوار العالية والتفاصيل العسكرية حاضرة في بناء تصوره، وآخرون بتفاصيل أخرى كل حسب قناعاته؛ وفي ذلك شواهد عديدة في كل العصور، فقد سجَّل الزمن ولادة مدن كثيرة في هذا السياق، فالتاريخ يعلمنا أن الإسكندر الأكبر، أيقظت في داخله بقعة مميزة من الأرض، تفصل البحر المتوسط عن بحيرة مريوط، لتقدح في ضميره فكرة إنشاء مدينة عظمى على أحدث مواصفات ذلك الزمن بين عامي 332 و333 قبل الميلاد.
في التاريخ العربي والإسلامي -أيضاً- شواهد من ذات الاتجاه في بناء مدن كثيرة؛ مثل: مدينة القيروان التي أنشأها القائد الشهير عقبة بن نافع، بعد أن اختاره الخليفة الأموي معاوية ابن أبي سفيان والياً على بلاد المغرب؛ حيث كان أول عمل له إنشاء تلك المدينة عام 50 من الهجرة 670 قبل الميلاد.
استحضرت التاريخ حين التقيت ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، ضمن مجموعة من المدعوين في تدشين تصاميم مشروع (ذا لاين، المزمع إنشاؤه في مدينة المستقبل نيوم) في مدينة جدة قبل أيام، فسمو ولي العهد يتحدث عن المدينة وكأنه يسكنها وتسكنه، يشرح تفاصيل امتداد 120 كيلومتراً، بعرض 200 متر، وارتفاع 500 متر فوق سطح البحر، في مشروع ذا لاين، وكأنه حاضر بكل تفاصيله بين يديه، وكأن قدميه تخطوان على أرضه، هذا الحلم يمثل ثورةً حضاريةً في موقع استراتيجي شمال غرب المملكة، أُسس على خط مستقيم ليمثل الإصرار والعزيمة التي تُستمد بمجاورة جبال نيوم، حتى يصل إلى البحر الأحمر، أيقونة لمدن قادمة في العالم، تستمد وجودها وحياة مَن فيها مِن البيئة؛ التي جاء المشروع ليرسم أنموذجاً عملياً لحمايتها من كل تجاوزات وأخطاء البشرية في العالم، مدينة تُنشأ لأول مرة بتركيزٍ كاملٍ على الإنسان، وليس التقنية التي سيطرت على إدراكه.
يمثل الحق في بيئة سليمة اليوم أحد أهم حقوق الإنسان المستجدة بتطورات الجيل الثالث من أجيال حقوق الإنسان، والتي تتجه إلى الاستقرار كمبادئ قانونية في صلب الاتفاقيات الدولية، ويتميز هذا الحق باعتباره حقًّا لا يتجاوز الفرد إلى الجماعة فقط، بل تتجاوزُ آثارُ التمتعِ به الأجيالَ الحاضرةَ إلى الأجيالِ القادمةِ؛ باعتبار أن البيئة حاضنةٌ مستدامة للوجود الإنساني.
في ذلك اللقاء مع سمو الأمير، تحدَّث سموه بأنها مدينة تخلو من الشوارع والسيارات، وتهيئ مجتمعها لحياة صحية أطول، في بيئة خالية من الانبعاثات الكربونية، مشيراً إلى أن بعض الأزهار والنباتات في المدينة لا توجد على كوكب الأرض مثلها.
في نظري أن هذا المشروع الأعجوبة سيكون إحدى عجائب الزمن، التي طوَّع الإنسان موارده وخبراته فيها من أجل الانسان وحقه في بيئة سليمة ، وسيكون منطقة جذب محلي وعالمي لكل أصدقاء البيئة المؤمنين بحقوق الإنسان والمدافعين عنها في بيئة نظيفة مستدامة، كما أن المشروع سيعتمد على الطاقة المتجددة من الهواء والشمس، التي تعد فيه مدينة نيوم من أهم مراكز العالم كفاءة في إنتاجها. ما سيشهد به التاريخ والمنصفون، أن هذا المشروع البيئي الفريد، جاء من قلبِ بلدٍ يعدُّ مركزَ الوقود الأحفوري (Fosil Fule) في العالم.
أتساءلُ اليومَ.. كيف لمنظمات حقوق الإنسان، والمدافعين عنها، والدول التي تزعم أنها أولوية في علاقاتها الخارجية، ألا تحتفي بهذا المشروع الذي سيعزز ممارسةَ ومقاربةَ تطبيقِ حقوق الإنسان من خلال (الحق في بيئة سليمة ومستدامة)، بما يعزز الوعي الإنساني بالعلاقة مع البيئة، من خلال رؤيةٍ حضارية للدفاع عنها، تستند إلى الفعل وليس الشعارات؟!.. كيف لتلك الدول والمنظمات التي اجتمعت في تزييف الوعي العالمي تجاه جريمة بشعة، وهي مقتل الزميل جمال خاشقجي -رحمه الله-، والتي دفعت الأمير محمد بن سلمان في خطوةٍ جادةٍ، بعيداً عن ضجيج المحتفلين بدمه، إلى إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، وإلى اللجوء إلى القضاء المستقل، وإنصاف أولياء الدم الذين باركوا جهود سموه على العلن وهم خارج البلاد، في عقر دار العابثين بملف حقوق الإنسان؟!
أقول ذلك وأنا المتبصر بملف حقوق الإنسان حين كنت عضواً في مجلس هيئة حقوق الإنسان في بلدي سابقاً، وعضواً مستقلاً في الهيئة الدائمة المستقلة لحقوق الإنسان حالياً، فلا أعلمُ بلداً في العالم، واجه بشجاعةٍ تبعاتِ قضيةٍ بهذا المستوى على أعلى المستويات، وعلى جميع الأصعدة، بإطار قانوني نزيهٍ وشفافٍ، رغم كل الضغوط والمكائد التي نصبها من قتلوا الزميل جمال خاشقجي بعد موته مراتٍ ومراتٍ، بدعوى الدفاع عن دمه!
أخيرًا، فإنني أؤكد أن مشروع ذا لاين ومدينة نيوم بأكملها، سيذكر التاريخ بإنصاف لمَن أسَّسها أنه أول من أسس مدينة على مبدأ الحق في بيئةٍ سليمةٍ نظيفةٍ ومستدامةٍ، والتي تمثل اليوم أحد أهم حقوق الجماعة الإنسانية بمجملها، وفتحها أمام العالم أجمع للسكن والاستثمار والتفاعل الإنساني الإيجابي كأول تطوير حضري خلاق منذ بداية العصر الرقمي، وليكون بإمكان 40 في المائة من سكان العالم الوصول إليها في غضون 4 ساعات فقط.
هذا المشروع وتلك المدينة -في نظري-، هي اختبار لكل المدافعين عن حقوق الإنسان والمؤمنين بشعاراته في العالم، فنجاحهم في ذلك هو دعم وإبراز هذا المشروع والتفاعل مع مكوناته، ليصبح مثالاً إنسانياً على وجه الأرض، يجسِّد تطبيق الإنسان لمبدأ الحق في بيئة سليمة نظيفة مستدامة، هذا المشروع رسالة واضحة من قائد عالمي هو محمد بن سلمان، الذي رأيت فيه في ذلك اللقاء، قائداً يؤمن بأن الطموحات والشعارات تبدأ بالفعل والعمل.