مشعل الحارثي
صدق الشاعر أحمد شوقي عندما قال والذكريات صدى السنين الحاكي وما ذاك إلا لأنها قطعة من النفس وصور متراكمة من مسيرة الحياة بما تمثله من أماكن وشخوص وما تمثله من معين خصب من الخبرات والتجارب التي نستلهمها من الماضي كمتنفس رحب نستدعي صوره ومواقفه وأحداثه مع الأقران والأصدقاء ورفقاء الطفولة والصبا وفي ساعات البهجة والصفاء فضلاً عن كونها تشكل ذخراً ودافعاً محفزاً للمضي نحو المستقبل بثقة وثبات.
ومن الذكريات التي داعبت مخيلتي وأنا أتجول خلال عطلة عيد الأضحى بمحافظة الطائف ووقفت معها طويلاً لاسترجع أيامها الجميلة التي طالما أتوق إليها كثيراً بما كان يضمخها من بساطة ونشاط وحيوية وتطلع وانطلاق وفي فترة الطفولة والشباب ذلك المعلم الحيوي من معالم الطائف القديمة المعروف (بحراج الشروق) والقابع في المساحة الطولية الضيقة الممتدة من الغرب إلى الشرق بالقرب من المنطقة المركزية والتي تبدأ بفندق العزيزية وتنتهي بحراج الشروق بباب الحزم وفي هذه المساحة التي تم إزالتها لتوسعة شارع الملك سعود كانت تنتظم عدداً من المحلات على الجانبين الشمالي والجنوبي ومنها أقدم محلات للتصوير الفوتوغرافي ومحلات الحلاقين وفندق آخر من أقدم فنادق الطائف وهو فندق دار السلام وبنك الراجحي وبعض المكتبات ومطعم السوداني، وفي نهاية سلسلة هذه المحلات باتجاه الشرق كان يقع مبنى سوق وحراج الشروق والمكون من جزءين المبنى أو الخان كما يطلق عليه آنذاك ويضم العشرات من الدكاكين وتعتلي سطحه قهوة (بور سعيد) التي تطل بثلاث إطلالات كونها تحتل رأس الزاوية لتلك المساحة الطولية الأولى منها باتجاه الشمال وتطل على شارع شبرا العام، والثانية من الجهة الجنوبية باتجاه وسط البلد والأخيرة بإطلالة شرقية على ساحة باب الحزم، أما الجزء الثاني فهو الساحة الفسيحة للمزادات اليومية ويقع في الجهة الجنوبية وبه تباع المتروكات المستعملة وخاصة قطع السجاد والبدل الافرنجية المستعملة و(الاكوات - والبوالط) التي كانت تلبس على الثياب اتقاء لبرد الطائف حتى أصبحت الآن جزءاً من الزي السعودي، كما يتم الحراج فيه على أجهزة الراديو والتلفزيونات المستعملة وألعاب الأطفال، وينشط هذا السوق في فترة الصيف وبشكل أكبر يوم الجمعة وينتقل نشاطه في شهر رمضان ليلاً حتى الفجر.
وكنت أحرص على أن يصطحبني والدي رحمه الله معه لهذا الحراج أسبوعياً لعدة أسباب ومنها مشاهدة موكب جلالة الملك فيصل رحمه الله عصر الجمعة من إطلالة قهوة بور سعيد وهو متجه من شارع الملك سعود ثم ينعطف يساراً باتجاه شارع شبرا في زيارته الأسبوعية لأخته الأميرة (سارة) حيث يقبع قصرها في نهاية شارع شبرا، ثانياً لأحصل على عدد من القصص والمجلات المتنوعة العربية أو الأجنبية وكنت لا أغادر حتى أحصل على شيء منها، وثالثاً لأعيش صخب الحياة وحركة الناس الكبيرة، وأشاهد جحافل طلاب المعاهد العسكرية الذين كانت الأتوبيسات تنتظرهم بالقرب من حراج الشروق في طريق عودتهم لمعاهدهم بعد إجازة نهاية الأسبوع، وكانت تشدني بهذا السوق أيضاً أصوات المحرجين الجهورية الذين أذكر منهم أحمد جميع، ووصل الله السواط، وعايد المالكي، وحامد الحميدي وغيرهم.
أما الدكاكين داخل الخان فكانت أغلبها لبيع المشالح وبيع وتأجير السجاجيد والخيام وأنواع المفروشات المختلفة، وفي ذلك الوقت لم تنتشر قصور الأفراح وقاعات المناسبات فكان الناس يقومون باستئجار هذه السجاجيد والخيام لإقامة مناسباتهم وأفراحهم، ومن هذه المحلات التي ما زالت عالقة بالذاكرة محل عيفان الجعيد للزل والمشالح، ومحل محمد ضعيان الحربي للمشالح، ومحل صالح بن حجر الغامدي للزل، ومحل بن جليب القحطاني للزل والمشالح، ومحل صالح الشعلان للمشالح والزل، ومحل عبدالله اللحيدان للمشالح والعود، ومحلات آل السريع ناصر وحمد وعبدالله وعبدالعزيز للمفروشات والمشالح، ومحل عبدالله الحيدر من أهل الرياض للمشالح والعود ، وعبدالرحمن ومحمد العياف للمشالح والعود، وعبدالرحمن الجدعان للمشالح، وفايز الجودي للخيام والزل، ومحمد بن داخل للخيام، وأحمد عزيز للمفروشات، ومحمد الحليس للمفروشات، وكان يتواجد داحل الخان أيضاً محل علي الحفيان لإصلاح الراديوهات والمسجلات والبكمات، ومحل عبدالله القطان لبيع وتفصيل اللحف المصنوعة من القطن، ومحلات البسط والحنابل، ومحلات سليمان الثبيتي للمساند المحشوة من شجر الطرف، إلى جانب عشرات المحلات لبيع المسجلات وأجهزة الراديو والاسطوانات الغنائية والآلات الموسيقية كالأعواد وأنواع الطبول والايقاعات، وكان يوجد بجوار محلات المشالح مجموعة من الخبانين الذين يقومون بتفصيل وخبانة المشالح على مقاس المشتري وكان أغلبهم من منطقة الأحساء وأشهرهم خويلد وصالح بن ردوم، ومحمد عايض اليمني وغيرهم ممن لا تحضرني أسماؤهم الآن.
وبعد أكثر من 40 عاماً انتقل حراج الشروق بعد ذلك من مقره الأول بمنطقة الحزم إلى مكانه الحالي خلف مبنى اتصالات الطائف بحي شبرا وما زال بعد أن ودع عالمنا إلى جوار رب العالمين أغلب من أسسوه وأحيوا أيامه ولياليه وصخبه الجميل وممن أتينا على ذكرهم، وأصبح هذا السوق بمكانه وشخوصه يحتل جزءاً من ذاكرة الماضي للطائف المأنوس.