عبدالوهاب الفايز
رحم الله الدكتور محمد الأحمد الرشيد وزير التربية والتعليم السابق، ففي مقال نشر في (جريدة الرياض 1 مايو 2007) يقول: (ما كنت أظن أني سأعود للكتابة مرة أخرى عما أراه أمراً بدهياً وحتمياً في أن تكون اللغة العربية هي لغة التعليم في مدارسنا (حكومية كانت أم أهلية) غير أني بعد أن استعرضت بعض ما كتب في صحفنا المحلية، وما دار في أكثر من جلسة ضمّتني ببعض الإخوة والزملاء من الحديث عن هذا الموضوع، تكشفت لي أمور تدور في نفوس بعضهم، وغموض يلفّ بعض ما ينبغي له أن يكون واضحاً، فأحسست أن من الأمانة توضيحها لهم، ولمن حجبت عنه هذه الأمور من غيرهم).
وها نحن الآن نكرر ما قال، فبعد هذه السنين، لم أتوقع أن أجد أن الواجب الوطني يتطلب ضرورة الحديث عن أمور مثل أهمية اللغة العربية، (خطورة المدارس الدولية) التي تدرس بمناهج أجنبية. الآن نرى حال الآباء والأمهات الذين يعيشون صراع الضمير، فقد كان دافعهم من إلحاق الأبناء بهذه المدارس هو لأجل أن يحصل الأبناء على تعليم أفضل ويتقنون الإنجليزية، والنتيجة أن الأبناء تمكنوا من إجادة اللغة.. ويتساهلون في أمور الهوية والدين والثقافة.
تجربة التعليم في المدارس الأجنبية في أغلب الدول العربية كانت لها انعكاسات سلبية على الأجيال الجديدة، فقد أثّرت على روح الانتماء الوطني وأوجدت الأرضية الخصبة لاختراق المجتمعات العربية. مع الأسف الدراسات والأبحاث قليلة، وهذا يعود إلى انبهار بعض النخب العربية بالحضارة الغربية، فهؤلاء تبرمج البعض منهم فكرياً وثقافياً على منظومة العمل والقيم الغربية، فلا يرى في الكون أفضل منها!
مقابل هؤلاء هناك قيادات تربوية ونخب فكرية واسعة في العالم العربي ظلت على قناعاتها وإيمانها بالقيمة المركزية للغة العربية، وأيضاً ظلت تحذر وتنبّه من خطورة الإقبال المتعجل غير المدروس للتوسع في الترخيص للمدارس الدولية التي تدرس بمناهج غربية وبلغة أجنبية.
ثمة خوف مُبرر على الأجيال القادمة من الابتعاد عن لغتهم الأم، ففي هذا خطر عليهم وعلى أوطانهم. وهنا نستحضر رأي أهل الخبرة والاختصاص، ومنهم رأي الدكتور الرشيد رحمه الله. ففي مقاله المشار إليه يشير إلى اتفاق (علماء التربية وعلم النفس على أن أهم عامل يعزز إتقان اللغة الأم هو جعلها لغة التعلم لكل المواد في المدارس ولكل المراحل الدراسية، ولغتنا العربية ذات صلة وثيقة بغيرها من المواد، مثل العلوم الطبيعية، والتقنية، والعلوم الاجتماعية، والرياضيات وغيرها).
ونقل في مقالة حوار بين النخبة دار في أحد اللقاءات حينئذٍ، وكأنه، رحمه الله، بيننا الآن ويستمع لحوارات النخبة التي تجتمع في ديوانيته الأسبوعية، أو في الدواوين والمجالس المفتوحة التي يتناقش فيها الناس حول الأمور التي تهمهم وتهم مستقبل بلادهم. ومما نقله من ذلك الحديث: (وقال أحد الزملاء الأعزاء: إن النسبة المئوية من السعوديين الذين يلتحقون بالمدارس التي تعلم بغير اللغة العربية نسبة ضئيلة، لا تشكل ظاهرة، قلت له: نعم إنها قليلة ولكن تنجم عنها أضرار كثيرة منها:
1- التفاوت في الثقافات؛ فأبناء بعض المقتدرين مادياً ستكون ثقافتهم مغايرة لثقافة أقرانهم.
2- إيحاء منا بعدم الثقة باللغة العربية لعدم قدرتها على الوفاء بمتطلبات العصر.
3- الاعتماد على مربين أجانب ثقافتهم تخالف ثقافتنا.
4- قد تحذو دول عربية أخرى حذونا فنكون قد سننا هذه السنّة للآخرين.
ثم ما هو المسوغ في عدم إبقاء اللغة العربية لغة للتعليم! هل عُملت دراسة وتبين منها أن ما يواجه تعليمنا من عدم تفوق هو أن التعليم باللغة العربية؟ أم أنه مجرد شعور بالنقص لا غير؟ وفي كل ما قرأته واطلعت عليه لم أجد دراسة واحدة تثبت أن استعمال العربية كان في أي حال من الأحوال سبباً فيما يُظن أنه ضعف في تعليمنا.
أريد أن يرشدني أحد على مواطن الخلل في لغتنا! وما الميزة التي نكسبها حين نعلم تاريخنا، وجغرافيتنا وغيرها من المواد الدراسية بلغة أجنبية؟).
والقلق من المدارس الدولية تنبّه له المختصون في عدد من الدول العربية. في مصر تنقل الباحثة مروة عبدالقادر، في مقال مطول نشر بعنوان (المدارس الدولية.. مراكز القتل الرحيم للهوية والانتماء، جريدة مبتدأ الرقمية، 9-8-2017) أوردت النتائج التي توصل لها أحد الباحثين حيث وجد بعد تحليل محتوى بعض مناهج المدارس الأمريكية (أن بعض تلك المناهج تعمل على تحقير العرب، وأنه لا وجود لمادة الدين أو التربية القومية أو الجعرافيا والتاريخ المصري، فى حين تدرس مواد الحرية الشخصية والجنسية، وقضايا الشواذ جنسيًا، والأطفال يصلون إليها صغارًا جدًا لم يستطيعوا بعدُ أن يخضعوا للهوية الثقافية لآبائهم ومجتمعهم، ويدخلون إلى منظومة المدرسة، ليتعلموا من خلالها معايير وقيم المجتمع الأمريكي الذي يختلف عن المنظومة الثقافية للأسرة والمجتمع الذي ينتمون إليه، مما يؤدي إلى صراع داخل الفرد لتشكيل الهوية، وعادة ما يرفض الأطفال في هذه الفترة الانتقالية ثقافة آبائهم والمجتمع الذي يعيشون فيه ويعتنقون ثقافة المجتمع المضيف).
وفي دراسه للباحث أحمد ثابت، متخصص في العلوم السياسية، حول (الهوية العربية الإسلامية ودور المؤسسة التعليمية في تشكيلها)، من خلال عينة من طلاب الجامعة الأمريكية وجد الباحث (عدد من الظواهر أهمها أن 71.5 % من طلاب الجامعة الأمريكية لا يعرفون لون العلم المصري أو ترتيب ألوانه، و27.5 % يرغبون في الحصول على الجنسية الأمريكية، و75 % يرون أن الوجود الأوروبى الاستعماري في مصر كان تعاونًا وتنويرًا ولم يكن استعمارًا). وكشفت دراسة أخرى (أن الطلاب غير ملمين بالأعياد القومية الوطنية بقدر إلمامهم بالأعياد القومية الأمريكية).
هذه المؤشرات السلبية هي التي تجعلنا نقلق من المدارس الدولية. نحتاج تحليل مخاطرها المتعدية بعيدة المدى المهددة للأمن الوطني، والمربكة لهوية الطالب، خصوصًا مع التوجه العالمي إلى استثمار سلاح الثقافة والفكر في الصراع وتهديد الجبهات الداخلية للدول، فالمدارس تهيئ الأرض وتضع البذور للخروج من الهوية.
هذا يتطلب أن تكون المؤسسات الحكومية المكلفة برعاية المصالح العامة العليا واعية بما يجري ولديها مرونة المبادرة إلى التدخل في الوقت المناسب لحماية المجتمع بالذات الفئات السنية الصغيرة.
وهنا نشير إلى أهمية مبادرة هيئة المرئي والمسموع عندما تحركت ضد المحتوى الإعلامي والإعلاني الفاحش في منصة يوتيوب وما أثمر عنه. هذا التحرك نتطلع إلى أن يتوسع بحيث تمارس الأجهزة الحكومية دورها للدفاع عن كل الأنشطة أو الممارسات التي تستهدف التأثير على قيم ومبادئ المجتمع.
الآن يتم اختبار القيم ومدى صلابة المجتمع في الدفاع عن قيمه التي يؤمن بها فنحن على أعتاب حقبة جديدة تتطلب من الشعوب العربية والإسلامية الدفاع عن منظومة القيم التي تجمعها وتوحد جبهتها الداخلية.