م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
1. «عصر النهضة» هو مصطلح ابتدعه المؤرخ الفرنسي «جول ميشليه» في القرن التاسع عشر، ويصف فيه مظاهر التطور في ممالك إيطاليا، وبخاصة (فلورنسا وفينيسيا وجنوا) في القرن الخامس عشر.. وسماه المفكر الفرنسي بذلك الاسم لأنه يراه فاصلاً جوهريًّا مع العصور الوسطى.. أي إن مصطلح «عصر النهضة» كان وصفًا يشير لفترة زمنية من التاريخ.. وهو مشتق من التاريخ الاجتماعي.. بل إن بعض المؤرخين والباحثين استخدموا تعبير «أوائل العصر الحديث» للإشارة إلى عصر النهضة.. على أساس أنها كانت المرحلة المؤسسة للعصر الحديث والفاصلة عن العصور الوسطى.
2. مظاهر التطور التي عاشتها ممالك إيطاليا المذكورة كانت بسبب موقعها الوسيط بين الشرق العربي والغرب الأوروبي.. والاتصال المباشر بينها وبين الإسكندرية ودمشق وحلب.. إذ أصبحت محطة إعادة التصدير إلى أوروبا لكل السلع القادمة من الشرق، سواء التوابل الهندية أو الحرير والخزف الصيني أو الأخشاب والصابون والورق والنحاس والملح والفضة والذهب وغيرها من سلع الشرق.. ولم تكتفِ تلك الممالك باستيراد السلع بل استوردت أيضًا فنون صناعة السفن؛ إذ زادت السعة والسرعة وأوزان الحمولة إلى ما يزيد على ثلاثة أضعاف حمولة السفن القديمة.. ليس ذلك وحسب بل إنهم تعلموا الحساب والجبر والأرقام العربية واستخدام الفواصل العشرية، وعمليات الجمع والطرح والضرب والقسمة وقياس الأوزان التي لم تكن معروفة في أوروبا قبل القرن الخامس عشر.. إضافة إلى التبادل التجاري والمقايضة وتحويل العملات وتحصيل الفوائد.. وكان الفضل في إدخال كل ذلك إلى أوروبا لرجل أعمال اسمه «فيبوناتشي».
3. أصبحت (فلورنسا وفينيسيا وجنوا) مراكز أوروبا التجارية المزدهرة نظرًا للأساليب التي أدخلها «فيبوناتشي»، التي تطورت من خلالها وسائل جديدة لتتبُّع المعاملات التجارية الدولية.. إذ كان سداد قيمة السلعة بالذهب أو بالفضة، ومع زيادة المبيعات ودخول أطراف عدة في العملية الواحدة أصبحت هناك حاجة إلى طريقة جديدة؛ فتم ابتكار (الكمبيالات) كنوع من الأوراق المالية، وسميت في حينه (صكًّا).. هذا النظام المالي الجديد ولّد عوائل تجارية تحولوا بمرور الوقت إلى مصرفيين.. ولأن الديانتين المسيحية والإسلامية تحرمان الربا فقد التف هؤلاء المصرفيون على الموضوع عن طريقين: الأول الاستفادة من اختلاف سعر بيع العملات وشرائها، والطريقة الثانية توظيف اليهود في هذا الميدان؛ فالديانة اليهودية لا تحرم الربا، وعملوا كوسيط بين المسلمين والمسيحيين.. من هنا نشأت تلك الصورة النمطية لليهودي الجشع، وارتفعت روح معاداة اليهود، وتخصص اليهود في الصرافة منذ ذلك التاريخ.
4. ما تعلمته ممالك إيطاليا في أواخر العصور الوسطى على يد العرب، مثل الحساب والتبادل التجاري وصناعة السفن والكمبيالات في التعاملات التجارية، أبرز بيوتًا تجارية كبيرة ومصرفيين كبارًا، مثل عائلة «ميديشي» صاحبة المصرف الأوروبي العملاق الذي كان يدير أملاك الكنيسة الكاثوليكية في كل أوروبا.. وكانت الكنيسة البابوية في روما تملك ثلث أوروبا في القرن الخامس عشر.. هيمنة عائلة «ميديشي» لم تقتصر على المال بل تعدت إلى الثقافة والفنون والسياسة.. وكان مصرفهم يسمى «المصرف الخادم للرب».
5. في منتصف القرن الخامس عشر انتهت حرب المائة عام بين فرنسا وإنجلترا، وهذا ساعد على تكثيف التجارة بين شمال أوروبا وجنوبها.. ثم وقع الحدث التاريخي الذي هز كيان أوروبا، وعجّل بتحولها، وهو استيلاء السلطان «محمد الفاتح الثاني» على القسطنطينية عام (1453م)، التي كانت عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، وغيّر اسمها إلى (إسطنبول).. مما ولّد حالة من التنافس بين ممالك أوروبا المبعثرة والدولة العثمانية.. وأيقظ ملوك أوروبا، وبدأت حالة الانتباه للثقافة والفنون وبناء القوة العسكرية والاهتمام بالعمران وتنظيم الحكم وتشجيع العلوم.. وبذلك فإن صعود الدولة العثمانية يعتبر أحد أهم المحفزات التي أدت إلى بزوغ عصر النهضة الأوروبي وتسريعه.