أ.د. يوسف بن أحمد الرميح
ذلكم الاسم الجميل نورة النعيم يحمل ذكريات والدتي -رحمها الله- وذكريات أختي الحبيبة الأستاذة الدكتورة نورة بنت عبد الله النعيم التي وافاها الأجل المحتوم وانتقلت إلى جوار ربها منذ عام كامل في يوم الاثنين 8 محرم 1443هـ، سائلين المولى أن يتغمدها بواسع رحمته، وعظيم مغفرته. فالدنيا دار ابتلاء ومصائب لا تصفو لأحد، قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}. لقد كان نزول الخبر على بناتها وأسرتها ومحبيها كالصاعقة. أشهد أن الموت حق، ولله الأمر من قبل ومن بعد، ولا راد لقضائه، ولا نقول إلا أحسن الله عزاءنا، وعزاء والدي معالي الشيخ عبدالله النعيم، وعزاء بناتها وجميع أسرة الفقيدة، وجبر الله كسر قلوبنا على فراقها، وتغمدها بواسع رحمته، وأسكنها فسيح جناته وألهمنا وإياهم الصبر والسلوان.
قصة الرحيل موحشة حين يغيب الرثاءُ، وتحضر الذكريات، وتحار العبر؛ لتسطر في ذكرى رحيلك كلمة رثاء، رغم أن ابتسامتك التي رحلت لم تزل تروينا، ودعواتك التي سكتت في صمتها لن ننساها؛ فرأيت أن أرسمها كما جادت فيها العواطف، واضطرمت بها الكبد، وبدمعة لا تفارق العين ألم، وبغصة، وفراق سكن القلب؛ فرحلت عن الدار الأولى بعد أن كنت فيها زاهدة، ورحلت وأنت تؤمنين بأن الآخرة عند الله هي خير، وأبقى.. فقد كان كرمك وبساطتك يؤثران بالغرباء قبل الأصدقاء، فأنت الجوادة التي لا تتجمل بمعروفها، وظنون خيِّرة.. بل كانت نفسك الطيبة تتعايش مع كل ذي طبع، باعتبارها المسلك الذي نجد أنفسنا سائرين به، وإليه، إذ ثمة حلاوة لا يذوقها إلا من كان حب الناس مسلكه. كانت الدكتورة نورة نسيجًا وحدها في تمسكها بدينها وكرمها وأخلاقها وفي حفاظها على الصداقة والمعرفة وصلة أولي الرحم.. كانت مداومة على أداء العمرة مع أمّها -رحمهما الله- التي سبقتها إلى لقاء ربها قبل سنتين، ولم تنقطع عن العمرة بعد وفاة أمها، وكانت تداوم الصوم تنفّلاً في كثير من الأوقات المستحبّ فيها الصيام، وهي كريمة كثيرة الإنفاق في وجه الخير، وكثيرة الصدقات. نورة صاحبة المبادئ والضمير في عملها وفي علمها وفي صداقتها، كان هدوؤها ورزانتها وعطاؤها وبذلها وسماحتها وحكمتها تلمس بصدق إنسانيتها وإحسانها على كل من يتعامل معها من أقرباء أو أنداد أو طلاب، لم تبخل يومًا بعلم ولا معرفة ولا مال ولا جاه، كان كرمها دومًا فياضًا وسخيًا وبلا نهاية.
د. نورة النعيم صاحبة القلب الأبيض، والذكر الطيب، والوجه المبتسم، والأستاذة الملهمة الغالية والأخت الفاضلة التي تبهرك بهدوئها وتعقّلها ورزانتها فقد كانت الدكتورة نورة نسيجًا وحدها في دينها وكرمها وأخلاقها وفي حفاظها على الصداقة والعشرة.. كانت متديّنة، سجادتها لا تفارقها, كانت متميزة في التدين والأخلاق والطيبة والوفاء وحسن المعشر والصدق والتصدّق والعلم والانضباط في العمل واحترام النظام فالدكتورة نورة اجتمعت فيها وحدها كل هذه المُثُل العليا، فرحمها الله رحمة الأبرار، وحشرها في زمرة المصطفين الأخيار، وجعل الجنة مستقرها ومأواها مع الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. فقد أثارت فاجعة رحيلها فقدانًا لأعز وأقرب الأقرباء، وانطفاء لشمعة نبل إنساني قل أن نجده في هذه الدنيا. اجتمع فيها النبل وحب الخير وكرامة النفس والوقوف عند الحق، تركت الدنيا وهي أحسن مما وجدتها، وهذا عزاء لنا.
وتعد الأستاذة الدكتورة نورة النعيم - رحمها الله - أحد أركان قسم التاريخ بجامعة الملك سعود، وأبرز أساتذة التاريخ القديم في تخصص تاريخ الجزيرة العربية القديم؛ فلقد حصلت على درجة الماجستير من جامعة الملك سعود عام 1409هـ، والمعنونة: بـ»الوضع الاقتصادي في الجزيرة العربية من القرن الثالث قبل الميلاد حتى القرن الثالث الميلادي»، وهو كتاب منشور الآن. كما حصلت على درجة الدكتوراه من الجامعة نفسها عام 1418هـ، وعنوان رسالتها: «التشريعات في جنوب غرب الجزيرة حتى نهاية حمير» وهو منشور أيضاً. وأشرفت - رحمها الله - على العديد من الرسائل العلمية لطلاب وطالبات الدراسات العليا، وناقشت العديد منها أيضاً، ولها عدة مؤلفات وأبحاث علمية منشورة في مجلات علمية مُحكمة منها: بحث «التطور التاريخي في منطقة القصيم في عصر ما قبل الإسلام»، وبحث «علاقة الدولة الساسانية بالإمارات العربية في جنوب وادي الرافدين والهلال».
والدكتورة نورة معدودة في العلماء النوادر المتخصّصين في تاريخ الجزيرة العربية القديم وكتاباته، ومن الحُذّاق في قراءة نصوص الخط المسند الجنوبيّ ودراسته وتحليله، واستنباط الحقائق التاريخية من مضامين نصوصه، وهي قمة في علمها.. أستاذة في تخصّصها.. منضبطة في تأدية واجباتها الوظيفية والتدريسية والإشراف على طالبات الدراسات العليا اللاتي تعاملهن بلطفها المعهود وكأنهن بمنزلة بناتها.. تَمْحَضهُنّ النصيحة والتوجيه الدقيق، ولم تبخل عليهن بغزير علمها، وحصاد خبرتها وتجربتها، وإعارتهن ما يحتجن إليه من مصادر ومراجع من مكتبتها العامرة بكثير من الدراسات النادرة، وتقارير البعثات الأثرية العالميّة، وتساعدهن حتى في ترجمتها من اللغة الإنجليزية التي تجيدها تحدثًا وكتابة إلى اللغة العربية. رحم الله أختي الدكتورة نورة العبد الله العلي النعيم رحمة واسعة وجمعنا بها بمستقر رحمته بالفردوس الأعلى من الجنة. والعزاء فعلاً للجميع.