د. عبدالحق عزوزي
في كتابه «حقائق وأخطاء وأكاذيب السياسة والاقتصاد في عالم متغير»، يرى البروفيسور العالمي جيجوش دابليو كوودكو أن مفاهيم علم الاقتصاد الصعبة تفسر أفضل تفسير باستخدام كلمات بسيطة ومعبرة؛ ويفترض أن يصف علماء الاقتصاد ما يجري ويفسرونه. وأفضل هؤلاء العلماء يعرفون ما يحدث وبإمكانهم إقناعنا؛ لأن المشاكل تطرأ عندما:
- يكونون على علم بما يحدث، لكنهم لا يستطيعون إقناعنا.
- أو لا يعلمون، ولكنهم يحاولون إقناعنا على أي حال.
- أو يعلمون أن حقيقة الأمور تختلف كما يحاولون إقناعنا بها.
في الحالة الأولى لا يسعنا إلا أن نحاول مساعدتهم في توصيل الرسالة؛ ورغم ظاهر الأمر، ليست تلك بالمهمة السهلة، فالجهود في هذا الاتجاه بحاجة إلى دعم المؤلفات والبرامج المعرفية، والتعليم ووسائل الإعلام المستقلة وغير ذلك.
وفي الحالة الثانية، عندما لا يعلم هؤلاء الأشخاص كيف تجري الأمور فعلياً ومع ذلك يحاولون إقناعنا بمفهوم مهم، يكونون على خطأ بيِّن؛ ومن الضروري عندئذٍ أن نناقشهم بهدوء وأن نعير اهتمامنا للرأي الآخر، لأن كل شخص من الممكن أن يكون على خطأ.
وفي الحالة الثالثة وهي الأسوأ أي عندما يتعمد الأشخاص نشر الأكاذيب في مجال السياسة- وهذا يحدث يومياً- لأن المهم عندهم هو النتائج لا الحقيقة. وتحاشي الحقيقة يصب أحياناً في مصلحة النتائج، وهذا هو السبب في نظر الاقتصادي البولندي أن الصدق والكذب يستخدمان باعتبارهما وسيلتين مفيدتين في السياسة. وهذا يفسر السبب في وقوع الكثير من علماء الاقتصاد الذين دخلوا عالم السياسة في شرك الأكاذيب.
ففي روسيا مثلاً كان الأمر سيكون بمنزلة انتحار سياسي لو كانت الحكومة اعترفت في عام 1992 أن تطبيق سياسات الليبرالية الجديدة سوف تفضي إلى سبع سنوات عجاف سينخفض خلالها الإنتاج إلى ما يتجاوز النصف، وأن قطاعاً عظيماً من السكان سيواجهون الإقصاء الاجتماعي. كما كان من غير المعقول أن تعلن الحكومة البولوندية على الملأ عند طرح سياستها في مطلع عام 1989- 1990 أن الدخل القومي سينخفض بنسبة 20 بالمائة تقريباً خلال العامين التاليين، وأنه سيكون هناك ثلاثة ملايين عاطل عن العمل في غضون أربع سنوات, إن الشعب لم يكن ليقبل بسياسات كهذه؛ وقد أطلق بعض علماء الاقتصاد الأمناء تحذيرات، لكن طغى عليها ضجيج نظرائهم الأكثر خضوعاً وطاعةً؛ وفي يومنا هذا، تقع نفس التضليلات الاقتصادية من طرف العديد من الحكومات التي عرفت مصيراً مأساوياً بسبب غليان الشارع كما هو شأن اليونان وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال بل وحتى أقوى الدول مثل فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. ففي الكثير من الأحيان يكذب المسؤولون الاقتصاديون داخل المجال السياسي الرسمي مع ساستهم، لأنهم يظنون أنهم إذا لم يفعلوا ذلك، سيثور عليهم الأولون والآخرون في رمشة عين...
مسألة التضليل هاته ليست حكراً على الاقتصاديين- السياسييين ولكن أيضاً يكون في بعض الأحيان ربانها أصحاب الشركات العملاقة التي تعرف من أين تؤكل الكتف عالمياً...
لقد كتب الكثير عن كيفية تضليل الناس بالعلم، وكيف يتمكنوا أن يصروا على الخطأ فترات طويلة واضعين ثقتهم في هراء وخزعبلات، لكن نادراً ما كتب حول هذا الموضوع في مجال الاقتصاد. وكتاب الخبير كوودكو أظنه واحداً من المراجع النادرة في هذا الباب؛ فالاقتصاد في نظره يسلك مساراً وسطاً بين الخيال كما تراه في الأفلام السينمائية؛ وبين الدقة الموجودة في العلوم البحتة وكلما اقترب علم الاقتصاد للدقة كان ذلك أحسن؛ والأفضل على الإطلاق هو الجمع بين دقة الرياضيات وتشويق الأفلام السينمائية.
نصح أحد الأصدقاء الخبير كوودكو تأليف كتاب ضخم يحوي الكثير من المعادلات بحيث لا يفهم أي شخص أي شيء، فحفظ كوودكو هذه النصيحة القيمة وقرر أن يفعل العكس بألا يضمِّن كتابه أية معادلة وأن يكتب بحيث يفهم الجميع...وهو ما يعطي لكتابه هذا فرادة وقيمة فكرية قل نظيرهما.
عندما زار ألبيرت أينشتاين الولايات المتحدة للمرة الثانية سنة 1931، قبل أن يستقر هناك لاحقاً بعد عام واحد، طلب أن ينال فرصة مقابلة رمز عظيم آخر من رموز القرن العشرين هو تشارلي شابلين. وبعد عرض لرائعته «أضواء المدينة» صفق الجمهور لكلا الرجلين العظيمين، وقال شابلين: «إنهم يحيونني لأنهم جميعاً يفهمونني، ويحيونك لأن أحداً منهم لا يفهمك».