أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
ظلَّت قضيَّة الالتزام في الأدب مختلَفًا عليها؛ فمِن مُنادٍ بالالتزام في الأدب؛ ليؤدِّي الأديب وظيفةً في الحياة، كسائر أبناء بيئته الذين يؤدُّون وظائف مختلفة، اجتماعيَّة، أو اقتصاديَّة، أو سياسيَّة؛ فكيف بالأديب، وهو يُعَدُّ مواطنًا ممتازًا، ينطوي على نفسه؟ وكيف يحيط فنَّه الأدبيَّ بإطارٍ صُلبٍ لا ينفذ منه إلى هموم الآخَرين، فيسهم بما أوتي من قدرةٍ تعبيريَّة، وبما وُهِب من تأثيرٍ في الجماهير، في حلِّ بعض تلك الهموم والمشكلات؟ فإذا فريقٌ آخَر يقف معارضًا هذا المطلب، محتجًّا بأنَّ الأدب فنٌّ، والفنُّ غايته في ذاته، ويكفي الأديب أن يبدع أدبًا جميلًا، لا يُشترَط أن يؤدِّي وظيفةً معيَّنةً خارج جوهره؛ ففي ذلك كلُّ وظيفته وكلُّ مهمَّته، ليكون عمله متعةً تستظلُّ أفياءها النفوس المتعبة، وتخلُد إلى نعيمه القلوب المجهَدة، فتندَى من عطره، وتتملَّى بجماله الروحي، كيما يهذِّب إنسانيتها، ويعيد الأمل والطموح في كيانها، فيبعثها حُرَّةً طليقة، مفتوحة العيون والقلوب للغد المستقبل.
هذا الاختلاف حول وظيفة الفنِّ بدأ يظهر على نحوٍ فلسفيٍّ في القرن التاسع عشر الميلادي. وكان من ضِمن ذلك: الاختلافُ حول واجب الأدب، وحول قيمته ووظيفته الحقيقيَّة. إلى أن قام بعد حينٍ من الدهر اتجاهٌ يدعو إلى «الفنِّ للفنِّ»، وساد هذا الاتجاه وسيطرَ؛ فكان ذلك من الأسباب التي بعثت، في القرن العشرين، على المناداة بالالتزام في الأدب. وكان (الوجوديُّون) هم الذين فلسفوا هذا الالتزام، ونظَّروا له، ونشروه في أصقاع العالم. هذا إلى دعوةٍ أخرى إلى الالتزامٍ في الأدب، كانت تنبعث من (الفلسفة الاشتراكيَّة الماركسيَّة)، تختلف عن الأُولى في بعض الأصول والفروع، ولعلَّ أهم اختلافٍ بينهما سلبُ الأخيرة الحُريَّة الفرديَّة من الأديب وإلزامُه بقضايا الماركسيَّة واتجاهاتها.
ويُعَدُّ سؤال الالتزام في الأدب من أسئلة نظريَّة الأدب، التي تبحث، ضمن ما تبحث، عن قيمة الأدب ووظيفته المنوطة به. ومن هذا البحث تنطلق أسئلةٌ أجهرها صوتًا السؤال: ما الأدب؟ وقد أجاب رأس الوجوديِّين، الفيلسوف الفرنسي
(جان بول سارتر Jean-Paul Sartre، 1905- 1980م)، في كتابه «ما الأدب؟»، بما فحواه: إنَّ للأدب وظيفةً اجتماعيَّةً وفكريَّةً واقتصاديَّةً وسياسيَّةً إلى جانب وظيفته الفنِّـيَّة، لكنَّ تلك الوظيفة لا تتحقَّق ولا يتمُّ أمرها إلَّا بالالتزام في الأدب.
من هنا يمكن أن تنطلق دراسة (الالتزام في الأدب) من مدخلين، نظريٍّ وتطبيقي. وأن يتفرَّع الأوَّل إلى جزأين: جزء لمفهوم الالتزام في الأدب وأبعاده، وآخَر لقيمة الالتزام في الأدب ووظيفته. أمَّا القِسم التطبيقيُّ، فيمكن أن يتفرَّع كذلك إلى جزأين، من المناسب أن يُجعَل ترتيبهما بحسب (جِنس النصِّ، وجِنس كاتبه)، هما: الالتزام في الشِّعر، ومن نماذجه في الأدب العَرَبيِّ مسرحيَّة «مأساة الحلَّاج»، للشاعر (صلاح عبدالصَّبور). والالتزام في النَّثر، ومن نماذجه «مسرحيَّة: الشيطان والرحمن»، لـ(جان بول سارتر).
وحول مفهوم الالتزام في الأدب وأبعاده، نجد في العَرَبيَّة أنَّ من معاني: «(الالتِزام): الاعتناق.» و«المُلازِم: المُعانِق»(1). أمَّا موسوعة «لاروس Larousse»، فيَرِد فيها عن مادَّة «ملتزِم engagé»: أنَّ «الملتزِم: هو الذي يَتَّخِذ موقفًا من النزاعات السياسيَّة والاجتماعيَّة، معبِّرًا عن إيديولوجيَّة طبقةٍ ما، أو حزبٍ أو نزعة... [و] الالتزام: هو المشاركة في القضايا السياسيَّة والاجتماعيَّة.»(2) ومع أنَّ معنى «الالتزام» لغويًّا قديمٌ في الاستعمال، إلَّا أنَّه اليوم يمثِّل اتِّجاهًا ومصطلحًا حديثًا في الأدب. كما أنَّ الدعوة إلى الالتزام قديمة الجذور، غير أنَّها لم تصبح فلسفةً ناضجةً إلَّا حديثًا.(3) تبنَّتها مدرستان: الاشتراكيَّة، والوجوديَّة. وينطلق التزام الاشتراكيَّة من أفكار الفيلسوف الألمانيِّ (كارل ماركس Karl Marx، -1883)، فيُسَخِّر الأديب في خدمة القضايا الاشتراكيَّة. ولذلك فهو اتجاهٌ أشبه بالإلزام منه بالالتزام.
[للبحث بقية]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الجوهري، الصِّحاح؛ الزَّبيدي، تاج العروس، (لزم).
(2) أبو حاقة، أحمد، (1979)، الالتزام في الشِّعر العَرَبي، (بيروت: دار العِلم للملايين)، 13.
(3) انظر: م.ن، 16- 00.
** **
(رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا - الأستاذ بجامعة المَلِك سعود)