منصور ماجد الذيابي
يوجد في بلادنا المملكة العربية السعودية الكثير من القرى والمدن ذات الطبيعة الخلاّبة والأجواء المناخية الجذّابة مثل مدينة أم الدّوم التي تقع على طريق الرياض- الطائف على بعد 200 كيلو متر تقريبًا إلى الشمال الشرقي من محافظة الطائف باتجاه الطريق المنحدرة إلى مهد الذهب والمدينة المنورة, والتي تصنّف إدارياً بكونها أحد أكبر المراكز الإدارية لمحافظة الموية الواقعة شمال شرق مدينة الطائف في إقليم عالية نجد حيث يوجد عدد من المراكز الإدارية مثل مركز ظلم شرق المحافظة, ومركز أم الدّوم إلى الشمال الغربي منها, وكذلك مركز مرّان ومركز دغيبجة ومركز حفر كشب, وهناك رضوان والعطيف في الجهة الغربية من المحافظة, وإلى الجنوب الغربي محافظة الطائف ثم الخرمة.
كانت أم الدّوم في الماضي البعيد مشهورة بوفرة مياهها, حيثُ بقيت إحدى أهم الموارد المائية لسنوات عديدة. وكان النّاس يقصدونها لأجل التّزود بالمياه العذبة في الآبار الارتوازية العميقة.
وكانت أم الدوم قرية صغيرة, شبه معزولة عن العالم الخارجي لعدم توفر شبكة الطرق الحديثة آنذاك, ولم يكن يتجاوز عدد سكّانها العشرات في حين يصل العدد اليوم إلى ما يقارب العشرين ألف نسمة غالبيتهم من الشباب دون سن الثّامنة عشرة, ولا يزال هذا العدد يتزايد يوماً بعد يوم نتيجة للهجرة العكسية إليها بعد ارتفاع تكاليف الحياة اقتصادياً في المدن الكبيرة, ونتيجة لتوفّر بعض الخدمات الأساسية والمقوّمات السياحية والاقتصادية, وبالتالي نجد أن الأنظار تتجه اليوم إليها بوصفها بيئة استثمارية جاذبة لأصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة.
تتميز أم الدّوم بأجوائها اللّطيفة والمعتدلة صيفاً وشتاءً لقربها من مدينة الطائف عاصمة المصايف ومهوى أفئدة السّياح والزائرين. كما تتميّز أم الدّوم بكثرة المزارع فيها إضافة إلى وفرة المياه الجوفية في بعض المواقع المحيطة بها, فضلاً عن توفّر المقوّمات السياحية الأخرى مثل أشجار الدّوم المعمّرة وكذلك مقلع «طميّة» الواقع إلى الشمال من أم الدّوم والذي يعدّ وفقاً للمصادر التاريخية أحد المواقع الأثرية الجاذبة للمهتمين بالآثار والسياحة, والمُلهم أيضاً للشعراء كما أوضحت ذلك في مقال سابق بعنوان «توظيف الشعراء لأسطورة طميّة في قصائدهم», إضافة إلى وجود متحف أم الدّوم الذي يعد مرجعاً تاريخياً يجسّد بعضاً من جوانب الحياة في الزمن الماضي الجميل, ويحتفظ بكثير من أدوات ووسائل العمل التي استخدمها الإنسان قبل مئات السنين. وهذا ما يجعل مدينة أم الدّوم مؤهلةً لأن تكون قادرة على استقطاب رجال الأعمال والزائرين والسّياح والمهتمّين بالآثار من داخل المملكة وخارجها.
لقد بذلت الحكومة السعودية الرّشيدة جهوداً كبيرة لتطوير أم الدّوم وما جاورها من القرى والمراكز الأخرى كما ذكرت في مقال سابق بعنوان «القرى والمراكز التابعة للمحافظات بحاجة إلى تطوير», غير أنها لا تزال بحاجة إلى مزيد من التطوير والتنمية في كافة المجالات الخدمية وذلك نظراً لكونها وجهة سياحية مفضّلة, ونظراً لتزايد أعداد المقيمين فيها من المواطنين لكونها تحظى بوجود المواقع الأثرية والتاريخية حيث كان يمرّ بها درب زبيدة التاريخي في عهد الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور والذي لا تزال آثاره وأطلاله باقية إلى يومنا هذا.
كما وأن أم الدّوم تُعرف وفقاً لبعض المؤرخين بأنها أرض بني هلال قديماً قبل هجرتهم المشهورة في القرن الثالث الهجري إلى بلاد الشام وشمال إفريقيا. وفي اعتقادي أن من يزور هذه المدينة الصغيرة ويعيش فيها لفترة زمنية محدّدة, فلا بد وأن تراوده فكرة العودة إليها ويشدّه الحنين لزيارتها مرة أخرى نظراً لقوة جاذبية المدينة الحالمة والوادعة في أحضان الطبيعة السّاحرة التي تتخلّلها الأودية والمزارع والجبال الشاهقة الجاذبة لهواة تسلّق الجبال وتوثيق اللحظات لا سيما وقت الغروب والشروق.
وكان أحد كبار الشعراء أشار لبعض الرّموز المكانية لأم الدّوم في قصيدته التي كتبها خلال الثمانينيات من القرن الماضي عندما طال به الغياب ورحل بعيداً عن دياره في أم الدّوم, ثم عاد لاحقاً إليها بعد أن هزّه الحنين لتلك الرّموز المكانية في الحيّ الذي عاش فيه سنين عدداً, وممّا قاله الشاعر:
يالله ياللي كل حيّ يساله
يا فارج الكربات عقب التصاعيب
تفرج لمن قلبه تزايد جفاله
كنّه يقالب فوق جمر المشاهيب
من ود حيّ شف قلبي واماله
من ودّهم صاب الضماير لواهيب
حيٍّ ورى الطايف حدورٍ شماله
وشرق الجبال اللي بها برقة الذيب
علي البيار اللي تصارخ محاله
ومكاينن تسقي الغروس المهاديب
يُلاحظ من هذه الأبيات أن الشاعر ماجد بن سفر الذيابي يتذكّر ويصف ويجسّد ويعبّر عن رغبته الشديدة في العودة إلى تلك الرّموز المكانية التي نشأ بالقرب منها مثل «برق الذيب», وهو أحد الجبال الشاهقة الارتفاع التي تحيط بأم الدّوم من الجهتين الغربية والشمالية, إضافة إلى ما ذكره من رموز مكانية أخرى كأشجار الطّلح والسّمر والدّوم, وأيضاً الآبار والمراعي وغيرها من الشواهد والمعالم المكانية التي تجذّرت في ذاكرة الشاعر إلى الحد الذي جعله راغباً بالعودة إليها والبقاء في ربوعها.
وبرغم ابتعادي عنها لأكثر من أربعة عقود, إلا أنني لا زلت أيضاً أتذكّر التفاصيل الدّقيقة لطبيعة هذا المكان عندما كنت صبيّاً يافعاً يلهو مع الرّفاق ولم يكن يتجاوز آنذاك السنة السابعة من عمره.
سقى الله أم الدّومِ والبيداء حولها
بماءٍ زُلالٍ من المزنِ ينسابُ