حسن اليمني
حين أتأمل وأجتهد في فهم عملية تركيب الوصف أو المصطلح الذي يطلق على الأشياء في الفعل الجيوسياسي أنصدم بخطورة مثل هذه العملية وهول قوة أثرها, وأنصدم أكثر حين أجد أن الاهتمام بهذا الفعل لم يحظَ بما يساوي خطورته وقوته في الأثر والتأثير وتغيير العقول.
فعل أو عملية تركيب الوصف أو المصطلح على الأحداث والعناوين معمول به منذ ولادة التاريخ, بل يدخل في فهرسة السلوك البشري الطبيعي مثال صديق, عدو, طيب, رديء, كريم، بخيل، حرب، سلام وإلى آخره، وكل شعوب الأرض تمارس ذلك بشكل طبيعي ولكن حين ينتقل من الأفراد إلى الجماعات والشعوب ليصبح شعب صديق، شعب عدو، شعب طيب، شعب بغيض، شعب مؤمن، شعب كافر وإلى آخر المصطلحات والأوصاف هنا مدى الخطورة وقوة الأثر يختلف، أما حين يصل إلى القيم العقدية والثقافية فهنا ينتقل ويصبح سلاح تدمير شاملاً، لأن ساحته حرب عقائدية أو ثقافية أو كلاهما أو ما يمكن وصفه بصراع حضارات.
الكل يدّعي الخير وأنه لأجل الخير يحارب الشر، والكل يدّعي أنه مع الحق ولأجل الحق يحارب الباطل، والنقاش في هذا يعتبر من النقاش الجدلي أو البيزنطي (المنسوب للإمبراطورية البيزنطية من قبل الإمبراطورية الرومانية قبل قرون طويلة) ولأنه كذلك فهو لا يستدعي الاهتمام أو التحقيق، غير أن استخدام المصطلحات والأوصاف كسلاح في هذا الادعاء إن لم تواجه بسلاح مضاد فإنه مع مرور الوقت يحول المصطلح أو الوصف حين يتم تداوله وخاصة في التأريخ وتدوينه ويصبح مرجعاً يُبنى عليه حينها يصبح سلاحاً معنوياً له تأثير بالغ، على سبيل شرح المعنى كمثال يقسّم الغرب النسيج الاجتماعي في العراق إلى سنّة وشيعة وأكراد، وإن تمعنت في الأمر وجدت أن السنّة والشيعة مذاهب دينية بينما الأكراد عرقية قومية فيها أصلاً ذات المذهبين فبأي معادلة وعدل جاز فصل وتقسيم الواحد المتجانس إلى ثلاثة مختلفين، لم يُبْنَ هذا التقسيم الخاطئ عن جهل بل عن قصد وتعمد وغرض كسلاح معنوي بتكراره ونجاح تسويقه ينقسم النسيج فعلياً إلى أجزاء بعيداً عن الكل الجامع، وبالتالي يسهل السيطرة عليه وإدارة حركته، والأمر هو تقسيم المقسّم أصلاً فالعرب أصبحوا أعراباً كلٌّ يعنون حسب إقليمه فهناك مصريون وجزائريون وسعوديون ويمنون وهكذا، ثم دخلوا الآن في تقسيم هذه الأجزاء إلى جزيئيات أصغر حتى داخل المذهب الواحد كما فُعِل بالقومية الواحدة، عملية خلق المصطلح والوصف هي التي هيأت تقسيم النسيج الاجتماعي أيضاً إلى أقلية وأغلبية وأنت لا ترى مثل هذا العمل يسوّق في الدول الغربية بل إنه مجرم فيما بينه المتجانس لكنه موجود ومستخدم في الدول العربية والإسلامية كقضايا حقوقية تأخذ اهتمام هيئة الأمم المتحدة وما يسمى بالشرعية الدولية.
اقرأ في هذه الفترة كتاب الطرد والإبادة للمؤرخ جستن مكارثي وهو كتاب يتميز بتحري العدل والإنصاف والموضوعية (قدر الإمكان لكن بعقلية إنجليزية) في سرد سياسة الإبادة والتهجير الروسي لأقاليم الإمبراطورية العثمانية التي تم اقتطاعها بالحروب بداية من القرن الثامن عشر وحتى بداية القرن العشرين، وما يلفت الانتباه ويثير الاهتمام هو في صناعة المصطلحات والأوصاف على تلك الأحداث، فالشعب في الإمبراطورية التركية مقسم بين مسلمين وجركس وأرمن ويونان وكرد وأسلاف وبلقان وعرب وهكذا، وهو بالفعل صحيح لكنه حصر وصف المسلمين للترك فقط ورفعه عن غيرهم بعملية خلط الدين بالقومية في عنونة هي في الحقيقة سياسية كمثل التقسيم الذي صُبِغ به النسيج العراقي اليوم، بمعنى أنه سلاح مستخدم لتمزيق النسيج في العقل الباطن لأفراد الشعب ضد بعضه البعض، والجرم الخطير الذي جعل من هذا السلاح المعنوي قوة قاهرة أنهت بالتالي وجود الإمبراطورية العثمانية هو في ابتلاع الطعم واستخدام هذه المصطلحات والأوصاف التقسيمية منها هي أي الدولة العثمانية أيضاً في داخلها، صحيح أن سلاطين الإمبراطورية العثمانية كانوا واعين لذلك لكن ضعف مواجهته في الداخل وتأجيجه من الخارج أوصل الإمبراطورية للتفكك والانكماش.
هناك أيضاً سلاح معنوي آخر لا يقل خطورة عن الأول وهو تصدير الثقافة من المنتصر واستيراد هذه الثقافة من المهزوم، بمعنى أن هذا السلاح المعنوي الثقافي مكمل للسلاح المعنوي الديني، وكلاهما يتم استخدامه لرفع كلفة الحرب عن المهاجم وجعل المقصود بهذه الحرب يدفع أثمانها وحده، وربما بتفاخر وحماس، صحيح أن شر البلية مايضحك ولكن أيضاً التذاكِي بالمؤمن الذي لا يلدغ من الجحر مرتين ثم يتلقى اللدغات مرات ومرات لا يعطي لطفاً لمقولة الضرب في الميت حرام فربما كان البلاء وصّفة علاجية لحالة السبات والتبلد، ولهذا حين نبحث بشكل جدي في ماهية مدلولات كثير من المصطلحات والأوصاف في العمليات الجيوسياسية التي تستهدف جغرافية تواجدنا وتاريخه بثقافته وعقائده فإننا لا نمارس ترفاً فكرياً أو ثقافي بقدر ما نكشف خفايا خبيثة مبطنة بطعم وألوان خادعة.
استيراد وتسويق نظم وطباع ولغة بما يدخل في الوعاء الثقافي من الخارج لا تعني تطوراً أو تقدماً، لأن تطور وتقدم شيء لا يكون إلا من أصله وإلا هو تقليد أو تركيب، وليس بين الأصيل وغير الأصيل خيط موصل إلا كونه خروجاً من أصيل إلى أصيل آخر مُقلّد، والتقدم والتطور يحصل للأصيل المقتدى وليس للتقليد التبعي، تسمية الأشياء بأسماء أجنبية قد يصل لتسمية الإنسان ذاته باسم أجنبي، فالكلمة هي مفردة اللغة واللغة هي أداة الترجمة للحاجة والرغبة والتعبير، وحين تبدأ مرحلة الاستيراد والتسويق لتلك النظم والطباع والكلمة تبدأ مرحلة الصراع بين المستأصل والمستجد، وفي العادة تعتمد فترة هذا الصراع على جودة معدن الأصالة، كل ما كانت خصلة الأصالة في المجتمع أو الشعب صلبة قوية كل ما كانت فترة التأثر أطول وأصعب، على أن عدم أو تجاهل استشعار خطورة هذا السلاح المعنوي يشكل ثغرة ضعف تعطي في النهاية نتائج وخيمة.
دخلت وسائل الإعلام كسلاح معنوي ربما قبل الحرب العالمية الثانية بفترة قليلة لكنها اليوم أصبحت قوة تساوي في تدمير العقول وتشكيل أفكارها قوة السلاح الذري في سعة مساحة قتله وفتكه بالبشر وربما أكثر، والأدهى من ذلك أن ينتقل أثر وتأثير سلاح الإعلام المعنوي إلى الداخل المستهدف من الخارج ليصبح جزءاً منه يستولي على أكبر مساحة من التأثير وتقليب المفاهيم بمصداقية وإقناع باعتباره مسلّماً به في الغالب كونه ناشئاً من داخل النسيج ومن جنسه، وهذا بمثابة حرث وتجريف للأصالة أشبه بتشريح جثة هامدة يتم العبث بها دون رد فعل أو مقاومة.
لعل هذه أبرز أنواع السلاح المعنوي أو بالأصح أخطرها أو بعبارة أدق أمضاها فتكاً وهدماً للشعوب المستهدفة، وإن كانت وسائل التأثير في هذا العصر توسعت مساحاتها والتبست بصورة أكثر تعقيداً في جمع المفيد والضار في قالب واحد مع سهولة في الاستخدام وسرعة في الانتشار ما يجعل مواجهة الشعوب لها كأفراد عبثاً وحرثاً في الماء، بل حتى الأنظمة والحكومات قد تقف عاجزة أمامه، والمثال في الإمبراطورية العثمانية يؤكد ذلك، إذ لا زال هذا السلاح المعنوي فعّالاً إلى راهن اليوم رغم نهاية مرحلة الإمبراطورية منذ قرن تقريباً، وإن كان لهذا أسباب جوهرية بما يمليه مبدأ السماحة الإسلامية في احترام التنوع في الأعراق والأديان واللغات بين الشعوب المنضوية تحت لواء الدولة الإسلامية بعيداً عن الإكراه والتعسف لعرق أو دين ضد الآخر، فإن هذا التسامح والتهاون والتغاضي في التاريخ القريب والبعيد يخبرنا أنه ثغرة تنفذ من خلالها كثير من الشرور، يقول بن غوريون مؤسس الكيان الصهيوني عن الدولة العثمانية حين كان مواطناً عثمانياً (إن الدولة الوحيدة التي تطبق الديمقراطية فعلاً هي الدولة العثمانية فلا تغتروا بدعايات الفرنسيين والبريطانيين)، وأقول صدق وهو كذوب، الديمقراطية في حقيقتها حصر لجمع متجانس مغلق على جنسه وجمعه، وحين تُمدد لخارج هذا المحيط تتغير معاييرها، يشهد بذلك ما نرى فعله في ديمقراطية بعض دول أوروبا اليوم مع عقائد وثقافات المهاجرين إليها.
إن دعوى مجاراة الواقع والانسجام معه يشبه إلى حد بعيد المناداة بالديمقراطية، كلاهما عنوان ساحر وجاذب، مجاراة الواقع والانسجام معه تعني القبول بما تيسّر وتوفر ثم الكف عن تعديله وتصويبه، والديمقراطية كما أسلفت في السطور السابقة نظرية مثالية تطبيقها ضيق لا يتسع إلا للمتجانس المنسجم وغير قابلة لاستيعاب المختلف إلا في الظاهر الشكلي، وهما أي الواقعية والديمقراطية أدوات ناعمة لذات السلاح المعنوي تختص بضرب الهمّة والطموح، مثلما لدينا سلاح معنوي ضد الموروث الديني والثقافي ولدينا سلاح معنوي يشبع العاطفة والغريزة وهكذا تنوع في أسلحة التدمير المعنوي بطريقة الترغيب تارة والترهيب تارة أخرى، إن لم يستشعر خطر ذلك ومواجهته بتوفير البديل المعاكس عن طريق الوعي والاستيقاظ من جهة وترقية الأصيل وحمايته فإن نتائج تكرار الطرق على الحديد تلينه وتطويه.