على عتبة منزلهم في سوق المشاهدة يجلس الطالب في آخر دراسته الابتدائية وبيده رواية أظنها للحكيم. شدني المشهد. صغر سن، مرحلة دراسية مبكرة، ومطالعة متقدمة. على محياه دلائل النجابة والنبوغ، يميل للوحدة. لا يخالط كثيرًا أبناء الحي المغلق عليهم كأنهم أسرة واحدة. وهو ينتظر على باب المسجد بعد انقضاء الصلاة خروج والده وقفت معه في حديث عن دراسته وهواياته. تكرر اللقاء وعرفت عنه أشياء رغم الحياء والسكينة والهدوء الملازمة له فيما بعد. يهوى القراءة، ويجيد الخط، ويحسن الرسم، ويحفظ أجزاء من القرآن، والكثير من شعر المتنبي وأبي تمام، ويعرف عن المسرح وكتابه ومبدعيه الكثير. يشدك بحديثه وهو ينظر إلى الأمام كأنه يستقرئ صفحات المستقبل على استحياء. كان يحرص على قراءة ما يقع بين يديه. يملك قدرًا عاليًا من الذكاء ما ساهم في بناء شخصية ذات سمات خاصة على حداثة سنة. تشدك إليه ذاكرة ذهبية متقدة. خطاه إلى المستقبل وئيدة نزقة.
لمحت ذلك. وقد كان أحد طلاب متوسطة قفار التي كنت أديرها، وكان يأتي بصحبة أخيه المعلم في المدرسة. كان طالبًا لافتًا في الصحافة المدرسية والمسرح والأنشطة الفنية ما شجعني لتسجيله في نادي الجبلين وكنت حينها مشرفًا ثقافيًا واجتماعيًا به. وجد نفسه في مكتبة النادي وأنشطته الثقافية: صحافة، إذاعة، مسرح.. ثم إن بيئة المنطقة حينها تعج بحراك اجتماعي بالمبدعين والمنافسة عالية. كانت له صحبة مميزة مع الأديب فهد السلمان، والمسرحي فهد الفريدي، والمدرب حمود السلوة، والأخوين علي وصالح الحصيني، والمبدع عبدالعزيز الهاشم، والإذاعي منصور الموكا، والحكم فهد المهوس، وخلف المسطح وعلي البكر، وآخرين كثر كانت لهم بصمة واضحة في المشهد الثقافي بالمنطقة. تلك واحدة من المراحل المهمة في تكوين شخصية روائية على مستوى المنطقة والمملكة والوطن العربي، أحد رواد القصة القصيرة، وتأخذه قدماه، ويقوده طموحه إلى المنطقة الغربية لتتضاعف ثقافته وإسهاماته بالكتابة الصحفية في العديد من الصحف المحلية، وبعض صحف الوطن العربي. وقد كان للدكتور عبدالله المناع دور في احتوائه وترويض شخصيته المتمردة. كانت تلك واحدة من محطات حياته الخلاقة والجميلة، وكان هناك رجال شدهم بفنه وإبداعه فمدوا أيديهم له.
صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبدالعزيز، الدكتور رشيد العمرو، الكاتب محمد القشعمي، الأستاذ خالد المالك، الأستاذ محمد العجيمي، المرحومون علي آل علي، ومحمد الراجح، والشاعر والإعلامي عبد الله الصيخان، والصحفي الإعلامي صالح الفهيد، الأستاذ محمد الحمد، الدكتور نايف المهيلب وآخرون.
ليعود بعد رحلة التكوين إلى أمه حائل وأهله موظفًا بالإمارة وعضوًا فاعلاً في النادي الأدبي، وزوجًا لأنظف وأطيب وأنبل زوجة (أم تغريد)، وأبًا لأجمل ثلاث درر (تغريد وأختيها)، عاش بينهم تعب الحياة ووطأة المرض، ولكنه ما فتئ يشارك في المشهد بمقتطفات بين حين وآخر، رغم انكفائه على نفسه إلا إطلالات حين تتحسن الأحوال على النادي الأدبي ليشكل مع بيته جناحًا آخر في حياته -رحمه الله وأسكنه واسع جنانه- فقد كان قلبًا مرهفًا يملؤه حب الله والوطن والناس جميعًا.
ربط الله على قلوب زوجته وبناته وإخوته وأسرة الحميد وأهله ومحبيه، والعزاء للوسط الثقافي والأدبي. عفا الله عن جارالله بن يوسف الحميد، لم يمت المبدع ويبقى بين الناس حيًا.. عليه شآبيب الرحمة والرضوان. {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
** **
- د. محمد بن عبدالكريم السيف