مشعل الحارثي
في أجندة الزمن الكبيرة - يمضي عام ويحل آخر - يرحل زمن وتتلاحق أزمان - ويظل الإنسان دوماً برغم ركضه اللاهث والمتسارع الخطى في الحياة وانغماسه في دوامتها يتوق للسعادة الأبدية، ويتلمس الأمل وينشد النجاة من المهالك ما تواصلت به الليالي والأيام.
وفي ذاكرة الزمن وتساقط الشهور والدهور تبقى الهجرة النبوية الشريفة معيناً لا ينفد للقيم الأخلاقية الخالدة، وعلامة شامخة من مفاخر التاريخ الإنساني، ومصدر وحي وإلهام عبر القرون لاستلهام العبرة والدروس العظيمة التي عبرت بالإنسان من دياجير الجهل والتخلف والظلام إلى نور الحق والإيمان والخير والعدل والسلام.
ومع أريج هذه الذكرى العطرة والرحلة الخالدة والحدث المتكرر في حياة المسلم كل عام والتي تعج كتب التاريخ والسيرة بأخبارها وأحداثها ووقائعها العديدة، وما ورد فيها من آيات قرآنية وأحاديث نبوية وقصص وروايات، أحببت أن نقف مع بعض الومضات السريعة التي لا تعد ولا تحصى لما توحي به هذه الذكرى ونستنتجه منها من بعض الحقائق ومنهج الحياة القويم.
وأولها: إن الهجرة في حقيقتها سلوك إنساني قديم يسعى لتحقيق هدف نفعي آني ومحدد سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات في الانتقال من مكان إلى آخر طلباً للعيش وتحسين الأحوال، إلا أن الهجرة النبوية الشريفة هجرة فريدة من نوعها وكانت لهدف رباني عظيم لبناء المجتمع المسلم واقامة الحضارة الإنسانية المتكاملة التي يجد فيها الإنسان ذاته في دنياه وآخرته.
وثانيها: إن الهجرة تأكيد قاطع على أهمية التمسك بطاعة الله ورسوله والأخذ بالأسباب، والصبر والثبات والتوكل على الله في كل الأمور واليقين التام بحسن المآل.
وثالثها: إن الهجرة من مكة المكرمة إلى طيبة الطيبة لم يكن فراراً وهجراً لأم القرى كما يروج له الكثير من الحاقدين والناقمين على الإسلام والمسلمين وإنما كانت إيذاناً ببدء فجر جديد من حياة البشرية، وخطوة مهمة لانتشال الدعوة من مكامن الضعف والانزواء عندما اشتد الأذى والكرب والبلاء على المسلمين بمكة المكرمة لتعود مرة أخرى إلى منطلقها الأساس وهي قادرة على الانطلاق بعد أن توفرت لها كافة عوامل القوة والمنعة والثبات.
ولما أتانا رسول المليك
بالنور والحق بعد الظلم
ركنا إليه ولم نعصه
غداة أتانا من أرض الحرم
وقلنا صدقت رسول المليك
هلم إلينا وفينا أقم
فنشهد إنك عند المليك
أرسلت حقاً بدين قيم
ورابعها: إن الهجرة إلى الله ورسوله لم تنقطع وأنها ما زالت قائمة حتى يرث الله الأرض ومن عليها وإن كانت وحسب تسلسل أحداث التاريخ انقطعت بفتح مكة وغلبة الحق على الباطل فإن مغالبة النفس وردعها عن هواها وصدق التوجه لله وسلامة المعتقد والتوبة والأوبة ستظل ضرباً من ضروب الهجرة الحقيقية إلى الله في كل وقت وحين.
وخامسها: إن الهجرة النبوية أتت لتنبذ كل المعتقدات الزائفة وتهدم كل مقومات التفاخر والعنصرية والتعصب القبلي والتبعية الجاهلية فلا فرق فيها بين جنس ولون أو طبقة وأخرى مؤكدة بذلك على مبادئ وحقوق الإنسان العادلة، ولتوطد مبدأ المساواة والانصهار الكامل في أمة واحدة تنضوي تحت دين واحد، وشعار واحد، وغاية وهدف واحد.
وسادسها: أظهرت الهجرة النبوية الكثير من الجوانب ومقومات العملية الإدارية التي تدرس اليوم في أرقى الجامعات والكليات وكتب فيها آلاف الكتب والأبحاث والدراسات كالتخطيط، والقيادة، والتنسيق، والعمل بروح الفريق الواحد والاستعداد والتجهيز والاهتمام بالوقت والطاعة ووحدة الأمر، والاستعانة بذوي الرأي والخبرة حتى لو كانوا من غير المسلمين.
وسابعها: تأكيداً لأهمية الهجرة ودورها الحاسم في المسار التاريخي للإسلام فقد كرمت باتخاذ الفاروق رضي الله عنه إياها لتكون مفتتحاً للتاريخ الإسلامي واعتبارها البداية الحقيقية للإسلام وبروز الحضارة الإسلامية.
وثامنها: إن المتأمل في دروس الهجرة النبوية يجد أنها أبرزت البعد التشريعي والسياسي والدفاعي للأمة الإسلامية ككيان حقيقي، كما أعطت أثراً بالغاً في التربية السليمة للأجيال سواء كانت روحية أو أخلاقية أو بدنية، وكانت واحة خصبة للعشرات من القيم والسلوكيات الأخلاقية ومن خلال القدوة والأسوة الحسنة لمعلم البشرية وهاديها عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ}.
ويظل حدث الهجرة النبوية من الأحداث المهمة في تاريخ بزوغ فجر الإسلام، وستظل حدثاً حياً متجدداً وليست حديثاً يتلى أو قصصاً تروى، بل إن ما تشتمله من دروس وعبر ومعان وعظات تشكل في مجملها النهج الشامل لروح الشريعة الإسلامية التي لم تأت الا لترتقي بالإنسان لما وراء الحياة الدنيوية لحياة النعيم والخلود الأبدي ، وكل عام وأنتم والأمة الإسلامية بألف خير.