د.عبدالرحيم محمود جاموس
رحل محمود درويش في 9-8-2008م عن دنيانا ملبياً نداء الرفيق الأعلى إثر عملية جراحية للقلب، كان المرحوم يعي درجة خطورتها، لكنه أقدم على القبول بإجرائها دون تردد أو وجل مسلماً أمره لله، بكل شجاعة طالما اتسم بها محمود طيلة حياته. الذي لم يكن يخشى من الموت يوماً، سوى أنه كان يخجل من دمع أمه إذا ما مات، فكان لوالدته أن تتجرع حصرته وتنهمر دموعها على فراقه، ويذهب محمود إلى الرفيق الأعلى وهو خجلاً من دمع أمه، واليوم نحيي الذكرى الرابعة عشرة لهذا الرحيل الخجل والمبكر لشاعرنا وأيقونتنا الثقافية والأدبية محمود درويش.
لقد شكّل الشعر في الثقافة العربية ومنها الفلسطينية مكوناً أساسياً من مكوناتها قديماً وحديثاً، فقد سمِّي الشعر ديوان العرب، ونحن اليوم نحيي الذكرى الرابعة عشرة لرحيل الشاعر محمود درويش جسداً في التاسع من أوغست/ آب الجاري، نجد أن محمود درويش يحيا معنا وبين ظهرانينا من خلال إرثه الشعري والأدبي الكبير، يتعلمه صغارنا كما قرأه وحفظه كبارنا، إنه عصي على النسيان وعلى الاختزال، فقد مثّل محمود نموذجاً خاصاً في الثقافة الفلسطينية والعربية على مدى خمسة عقود من عمره، تمكن من التماهي مع الشعر في كافة أبعاده الغنائية والموسيقية والإنسانية والوطنية، فقد وجد محمود درويش نفسه في القصيدة وفي الشعر فكانت سلاحه الأبرز والأمضى في البحث عن الذات وعن فلسطين الأرض والوطن والشعب والهوية والقضية بكل أبعادها التراجيدية، وترك بصمته الثقافية على الثقافة الفلسطينية والعربية والدولية، التي يشهد له بها إنتاجه الشعري والنثري على السواء، واضعاً قضيته في إطارها الإنساني الواسع، مستخدماً تقنيات الشعر بأبعادها المختلفة، فلم يكن أسير الجمود والأيديولوجيا وسطوتهما والقوالب الجاهزة، بل كان متحرراً من القوالب الجامدة، منفتحاً إلى آفاق إنسانية رحبة نقلته ونقلت القضية الفلسطينية معه إلى العالمية من أوسع أبوابها..!
لقد كانت باكورة علاقتي الشخصية بدرويش وشعره في العام 1969م عندما كنت في بداية المرحلة الثانوية مع قصيدته (سرحان فدائي وليس بقاتل) تلك القصيدة التي عرفت من خلالها محمود درويش وشعره المقاوم وألق إبداعه ورمزيته وسعة خياله الشعري الجميل، شأني شأن أبناء جيلي في تلك المرحلة القاسية عقب نكسة حزيران.. ولا أنسى لقائي المباشر به وحضور أمسياته الشعرية الجميلة والجماهيرية في ربيع العام 1973م، عندما زار المغرب الشقيق (حيث كنت طالباً جامعياً فيه حينذاك) بدعوة من اتحاد كتاب المغرب العريق، الذي كان يرأسه حينها صديقه الناقد والروائي الكبير الأستاذ الدكتور محمد برادة، وقد نظّم له عشر أمسيات شعرية غطت المدن الرئيسية للمغرب الشقيق مبتدئاً بمدينة الرباط وفي مسرح محمد الخامس الذي رغم اتساعه لم يتسع للحضور يومها، مما اضطر المنظمون إلى تركيب شاشات خارجية لتلبية رغبة الحضور الكثيف.. هذا المشهد تكرر في كافة أمسياته في المدن المغربية..
فقد استطاع محمود درويش أن يضع لنفسه المكانة اللائقة به وبفلسطين التي يمثلها في الثقافة العربية وبين الجمهور العربي الذي عشق فلسطين ودرويش وشعره، الذي يحمل رسالتها الوطنية والقومية والإنسانية بكافة أبعادها النفسية والاجتماعية والسياسية والفنية، وقد استطاع درويش أن ينقل شعره إلى المستويات الأوسع عالمياً وفنياً لتترجم أعماله إلى عشرات اللغات العالمية، حتى الصينية، عندما نسقت معه رحمه الله لترجمة (ديوان أعراس) إلى الصينية على نفقة وزارة الإعلام السعودية سنة 1985م، حيث كان يومها يقيم في باريس، اتصلت عليه وأبلغته برغبة باحث صيني مقيم في الرياض حيث يتابع دراساته العليا في الأدب العربي بترجمة (ديوان أعراس) وأن وزارة الإعلام السعودية ستتكفل بطباعته باللغة الصينية، فأعطى موافقته ومباركته لهذا العمل فوراً وبلا شروط..
محمود درويش أيقونة الشعر والثقافة الفلسطينية والعربية بلا منازع، حتى بعد مرور أربعة عشر عاماً على رحيله ونحن نحيي ذكراه الرابعة عشرة للرحيل، يبقى هو وشعره حاضراً وباقياً فينا ومتسيداً على عرش القصيدة الفلسطينية والعربية في عمقها الوطني والقومي وبعدها الإنساني، سيبقى شعر محمود درويش نبراساً خالداً وسيبقى رمزاً كبيراً للهوية الوطنية والقومية والإنسانية بكل أبعادها...
عصية على الزوال والاندثار وسيبقى ملهماً للشعراء والأدباء وللأجيال من بعده، كان درويش متوافقاً مع ذاته، مندمجاً في الشعر اندماج الملح في الماء، مدركاً خصوصية وعمومية رسالته الأدبية الإنسانية، كان محمود درويش ظاهرة عصية على التقليد، لأنه خرج من نطاقات التقليد إلى أرقى مستويات الإبداع والرموزية الأدبية والشعرية منها خاصة، ليمثل مدرسة شعرية قائمة بذاتها...
نحن اليوم نحيي ذكراه الرابعة عشرة لنؤكد على ضرورة العناية بإرثه الثقافي الأدبي النثري والشعري، وتعميمه لما فيه من رسالة إبداعية وطنية وقومية إنسانية متكاملة كتكامل شخصية محمود ورمزيته الأدبية والوطنية والإنسانية وما مَثله من دور بالغ الأهمية في مسيرة الكفاح الوطني وتقديم القضية والرؤيا والحقيقة الفلسطينية للصراع مع الصهيونية والاستعمار، مخترقاً بها ساحات دولية أدبية وثقافية كانت حكراً فيما مضى على الصهاينة وأنصارهم، ولما للأدب والشعر والثقافة من دور تعبوي فعال في مسيرة الكفاح الوطني والقومي والإنساني.
رحم الله شاعرنا الكبير محمود درويش.